كتب جان الفغالي في “نداء الوطن”:
بفارق نصف قرن إلا ثلاث سنوات، تنتقل الذاكرة من قمة الرياض، عام 1976، لتحطّ عام 2023 في جدَّة. قمة الرياض غطَّت الدخول السوري إلى لبنان تحت مسمَّى «قوات الردع العربية» التي تشكَّلت في معظمها من القوات السورية. قمّة جدة تبحث في إعادة استيعاب سوريا تحت «العباءة العربية»، في محاولة لإخراجها من «العمامة الإيرانية».
في نصف قرن، تغيَّر كل شيء إلا «النظام السوري» و»الفوضى اللبنانية»، كان هناك الرئيس حافظ الأسد على رأس النظام، وكانت سنواته في سدة الرئاسة لم تتجاوز الست سنوات، وكان خارجاً من تركيز حكمه: لا مؤامرات، لا انقلابات، لا مراكز قوى، الجميع تحت سطوتِه وسلطته، من شقيقه رفعت، قائد سرايا الدفاع، إلى رفاقه العماد مصطفى طلاس والعماد حكمت الشهابي وآخرين.
لم يدَع الواقع الفلسطيني يزعزع سوريا، كما فعل هذا الواقع في لبنان، فاتفاق القاهرة كان بين السلطة اللبنانية وزعيم منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات الذي لم يحبه حافظ الأسد يوماً، ولم يرتَح له، وحتى حين ضرب الملك الاردني الراحل حسين الفلسطينيين في أيلول من العام 1970، في ما عُرِف بـ»أيلول الأسود»، لم يستقبل حافظ الأسد «النازحين» من الفلسطينيين في سوريا، بل وافق على أن ينتقلوا «ترانزيت»عبر سوريا، إلى لبنان.
تعقبهم إلى بيروت، إلى أن كانت «حرب السنتين»، بين عامي 1975 و1976. خشي أن يشكِّل لبنان «الخاصرة الرخوة» التي يمكن أن يستخدمها الفلسطينيون ضد سوريا، فكانت خطوته أن يسبقهم إلى لبنان، قبل أن يذهبوا إليه إلى سوريا، فكان قرار الدخول إلى لبنان تحت مسمّى «قوات الردع العربية» التي كان من أبرز مهامها الحقيقية، غير المعلنة، «ردع» منظمة التحرير قبل أي شيء آخر، وقد أدرك الفلسطينيون نية الأسد، فكانت المواجهة معه عند دخول جيشه، وأدركوا أنّ «عصرهم» في لبنان في طريقه إلى الأفول، وأنّ الكلمة الاولى والأخيرة فيه ستكون لحافظ الأسد وليس لياسر عرفات.
هذا كان قبل نصف قرن، اليوم تغيّرت الدنيا: بشار الأسد ليس حافظ الأسد، الأسد الأب كان سيّد الملعب ويسيطر على اللعبة، عبر استراتيجية تجميع الأوراق، بشار الأسد يدخل الملعب مجدداً بعد خروجه منه منذ اثني عشر عاماً، غاب خلالها زعماء ورؤساء كثيرون، من الرئيس حسني مبارك إلى العقيد معمر القذافي إلى علي عبدالله صالح إلى بن علي، يعود إلى الملعب العربي وقد انتهى «الربيع العربي» وانتقل العالم العربي إلى»الخريف» على كل المستويات.
يعود بشار الأسد إلى الفلك العربي، فيلمح فيه «مجرّةً» اسمها إيران، لا يستطيع الابتعاد عنها. الأسد في القمة تتنازعه قوتان: القوة العربية العائدة، والقوة الإيرانية المتمركزة في «عاصمة الأمويين». هذا التنازع نعمةٌ ونقمةٌ في آن، لا يستطيع بشار الأسد أن يربح إيران والعرب في وقت واحد، الربح في مكان يعني خسارة في مكان آخر، إنتهى زمن الربح على كل «التابلوهات»، هذه حنكة كان يجيدها حافظ الأسد، وأتاحت له أن يحكم سوريا بيدٍ من فولاذ على مدى عقود متتالية.
أين لبنان من كل ذلك، بين قمتَي الرياض وجدة؟
مسكين هذا «الوطن الصغير»، يذهب إلى القمة مشلَّعاً لأنّ رئاسته مخطوفة ورهينة، وعبء الحرب السورية يحمّله أكثر بكثير مما يحمّله غيره. كانت قمّة الرياض تغطي دخول ثلاثين ألف عسكري سوري، اليوم قمّة جدة لا تعرف كيف تجد حلاً لأكثر من مليونَي نازح سوري على أرض لبنان.