4 آب… اليوم الذي لن ينساه اللبنانيون
في الساعات «الهستيرية» المُرْعِبة التي تلت السحبَ البركانيةَ الهائلةَ في سماء لبنان، وارتدادات العصْف المزَلْزِل، لم يكن أحدٌ يتوقّع ما حلّ ببيروت… كان الذهولُ المضرج بالدم، والعيونُ الحائرة كالأشلاء، والقلوبُ الغائرة كالأنفاس، وحدها في المكان الذي بدا كأنه خارج كل زمان ومكان.
فلم يكن أحدٌ قادراً على تَوَقُّع ما حدث في المرفأ ومحيطه القريب والبعيد، وما أصاب الحجر والبشر.
بين الرابع والخامس من آب 2020، كانت فكرة الانفجار في ذاتها طاغية على كل شيء. لم يكن أي لبناني ليتخيل أن دائرةَ الانفجار في الحجم الذي خلص إليه.
ولم يكن أحد يتصوّر أن المأساة ستكون كبيرة في الشكل الذي أوْقع آلاف الضحايا والجرحى، ودمّر نصف العاصمة.
بعد عام من الانفجار، أصبح الوعي أكبر لما حصل. يومها كان الجميع منغمساً في البحث عن الأحباء، عن المصابين وعن الذين دفنهم الركام، والذين اختفوا، عن المنازل المدمرة والمؤسسات التي عصفت بها رياح الانفجار، كما عن أسباب ما حصل.
اليوم توازياً مع التحقيق القضائي المفتوح على احتمالات كثيرة، وبدء معركة سياسية وأمنية وقضائية حول ما طلبه المحقق العدلي القاضي فادي بيطار لجهة رفْع الحصانة عن نواب (وزراء سابقين) وإعطاء أذونات لملاحقة قادة أجهزة أمنية، تعطي رؤيةُ العاصمة المنكوبة بُعداً آخر، وتكشف فعلياً هول الانفجار وما خلّفه
عائلات الضحايا، في جروحهم المفتوحة أبداً، أعادوا عقارب الساعة إلى الوراء وحملوا نعوش أحبتهم الفارغة وذهبوا إلى رافضي رفع الحصانات السياسية والأمنية، ليطالبوا بحق أبنائهم. أما بيروت فحكايتها ما زالت بعد عام ملؤها الفجوات وآثار الحرائق والإصابات التي طالت قلب بيوتها.
لا تعكس لافتة «باقون» المرفوعة في أحد أحياء الجميزة، ذاك الأمل الذي كان يفترض أن تعطيه. بعد انفجار المرفأ، صارت كلمة «باقون» شعاراً محزناً مرفوعاً حيث الدمار ما زال جاثماً في الأحياء السكنية.
صحيح أن الردم أزيل على يد آلاف المتطوعين الذين أتوا من كل أرجاء لبنان، لكن الدمار، بمعناه الحقيقي، النفسي والجسدي، لا يزال محفوراً في كل زاوية وشارع وحيّ، شاهداً على أن انفجاراً هائلاً… مرَّ من هنا.
هو المشهد نفسه، والروائح نفسها والحزن نفسه، الذي ظل يطبع ذاكرةَ اللبنانيين حين انتهت الحرب ونزلوا إلى وسط بيروت يتفقدون شوارعها وساحاتها المدمّرة وأبنيتها المهشَّمة بالرصاص.
هنا لا رصاص، هنا شظايا الانفجار والحديد المتطاير من العنابر المنفجرة، وسحبٌ سود تغطي المباني، وكأن تلك التي كانت مزدانة بألوان الرسامين والفنانين، طُليت بالأسود حداداً.
من الجميزة، إلى شركة الكهرباء المدمَّرة التي تقف بنوافذها المشلّعة، والضحايا الذين فقدوا فيها، شاهدة على أن بركاناً انفجر طال نصف بيروت ودمّر أكثر من نصف أحياء الأشرفية القديمة التي صبّت فيها الحمم السوداء، إلى الكرنتينا، والمرفأ والمدور والجعيتاوي وصولاً إلى شوارع وأزقة صغيرة.
كل زاوية تروي قصة الموت الذي لاحق الناس في بيوتهم الآمنة. محطات المحروقات ما زالت مدمّرة، مؤسساتٌ أقفلت نهائياً، وأخرى تحاول الانبعاث مجدداً، ولو في ظل وضع اقتصادي متدهور.
مستشفيات رمّمت نفسها ولملمت جِراحَها وعادت تستقبل المرضى، وبيوتٌ تُكابِر لتبقى حيث حلّت لعنة الموت.
تشكل منطقة المرفأ جزءاً لا يتجزأ من ذاكرة بيروت وأهلها. المرفأ ليس مستوعب حاويات، ولا هو مرفأ الصيادين ولا الجمارك ورجال الأمن، وعنابر التجار والمستودعات وحاويات الشحن وإهراءات القمح.
بل هو الذاكرة العتيقة والأحياء التاريخية والبيوت القديمة لا يتركها أهلها حتى لو تهالكت.
هي المنطقة المنبسطة على البحر المتوسط والرئة الاقتصادية للمدينة الحديثة، وواحة السفر والهجرة في المدينة القديمة، وقبل أن يولد مطار بيروت.
وهي صفير البواخر ومناديل تلوّح للمسافرين، وهي المَنْفَذ أيام الحرب والسلم، وأهل بيروت الذين ينتمون إليها.
منطقة المرفأ هي جزء من بيروت بأحيائها القديمة وأبنيتها ومكاتبها. لكن المنطقة السكنية لم تتأثّر كلها بعصف الانفجار الذي أصاب شرق المدينة.
إنما الشلل الاقتصادي الذي نتج عن انفجار المرفأ، أصاب العاصمة كلها.
في المناطق المحيطة بالمرفأ، الحركة الاقتصادية خجولة، والمباني الاستثمارية على طريقيْ المرفأ رُمّم بعضها وبعضها الآخَر قيد الترميم.
في الكرنتينا التي تدمّرت في جزئها الأكبر، منازل العائلات الفقيرة تُجاوِر مؤسساتٍ صناعيةً وتجاريةً ومراكز تجارية صغيرة، لا تزال تحمل آثار الانفجار، رغم محاولات المؤسسات الإنسانية المساهمة في أعمال الترميم، وفتْح مراكز لتقديم المساعدات.
في قلب الأحياء الأقرب التي أصابها الانفجار والمُوازِية للمرفأ جغرافياً، يرتفع علمٌ لبناني كبير فوق أحد المنازل، يكاد لا يُرى سواه، وهو يرفرف حيث عاد بعض نبض الحياة إلى الأحياء العتيقة.
لافتاتٌ تعمّ المناطق المنكوبة عن الإصرار على البقاء وعدم الاستسلام، عن الحياة التي يحاول الجميع التمسك بها، عن البيوت القديمة التي تُرمَّم بما يتيسر، عن المنازل التي يسكنها أهلها ولو لم تُرمّم كاملة.
لكن في المقابل يكفي رؤية منزل واحد لا يزال متصدّعاً ونوافذ من دون زجاج وبيوت بلا سقف، حتى يصبح لحكاية البقاء وجه آخَر، ممزوج بالحسرة على ما تبقى من بيروت.
أحد المعنيين بقطاع الهنْدسة في الأحياء المدمّرة، يتحدث عن ترميم نحو 30 في المئة من المنشآت المدمَّرة فقط، وعن عودة نحو ثلث المتضررين إلى حيث كانوا.
فمَن يعيد الآخَرين؟ ومَن يرمّم منازلَهم قبل الشتاء الثاني بعدما تراجعت قيمة المساعدات وتضخّم الوضعُ النقدي وتعثّرت أكثر فأكثر أحوال الناس، فانصبّت المساعدات على تأمين الطعام والأدوية طوال الأشهر الماضية.
لا تزال المساعدات حتى الآن تتدفق على الأهالي المنكوبين. لكن تَعثُّر الترميم بات يصبح مشكلة جدية. من هنا عادت الخشية إلى ما كان مطروحاً بعد الانفجار بأيام قليلة، عن حركة سماسرة تفتش عن ضحايا التفجير لشراء ممتلكاتهم وشراء المؤسسات التجارية التي اختنقتْ بفعل الأزماتِ المتلاحقة.
هي نفسُها روايةُ الذين يفتّشون دائماً عن استثماراتٍ وسط الخراب، بعدما عرفتْ بيروت المصيرَ نفسه مرّات عدة.
ناطحاتُ سحابِ وشقق مرتفعة الثمن ارتفعت بعد الحرب طالها الدمار، لكن التجار والسماسرة لا يزالون يبحثون عن الأحياء القديمة علّهم يظفرون بصيدٍ ثمين من أجل شركات تطوير عقارية.
في شوارع صغيرة، صور الراحلين مرفوعة أمام منازلهم، وعند حافة الطريق المؤدية والمُشْرِفة على المرفأ، صور الضحايا وأسماؤهم.
كُتبت أسماء الشهداء بالأسود. ظلّوا هناك يخبرون العابرين من بيروت وإليها، حكايات شبابهم الذي راح، وأجسادهم التي كوتْها النيران.
إهراءاتُ القمح لا تزال واقفةً وحدها في الساحة التي ترتفع فيها أكوام الحديد، لكن القمح علامة الحياة والأمل، صار رماداً، والتلوث الذي ضرب المنطقة بغبار نيترات الأمونيوم والدخان، بات يعطي للإهراءات صورةَ الموت الذي عشعش في كل حنايا المرفأ.
مَن يأكل قمحاً اليوم ولا يذكر الاهراءات المشلّعة أو يذكر شهداءها؟ عمليات التنظيف لا تزال مستمرّة، عنابر ومستودعات حديدية مدمَّرة، تباع بالكيلو لتجار الخردة، وسماسرة يشترون ويبيعون أطنانَ الحديد الذي طوّعتْه النيران التي أطاحت بالجزء الأكبر من المرفأ. الرافعات الحديد، وبعضها معطّل، تطلّ بالأحمر والأزرق وسط ضباب الغبار المنبعث يومياً، وسياراتٌ تتوقف عند الطريق المطلّ على ساحة الانفجار، ينزل مَن فيها للتفرج على الخراب، ويلاحقون الأسماء المحفورة على الحائط، اسماً اسماً.
أسماء باتت معروفة.
اخوتهم، أهلهم وشقيقاتهم، يحملون قضيتهم على وسائل الإعلام، يرفعون صوراً لهم على الطرق في «عيدهم».
هناك أسماء وصور لن تمحى بسهولة من ذاكرة اللبنانيين، عناصر الدفاع المدني، عمال وأطفال وصبايا وشباب وآباء وأمهات صارت أسماؤهم على كل شفة ولسان.
والطريق الطويلة إلى المرفأ، تحمل صور شهداء فوج الإطفاء موزَّعين أمام الفوج في الطريق إلى الكرنتينا، ومَن يمكن أن ينساهم هم الذين أُخذوا على غفلة من الزمن وعلى مرأى من السياسيين المتفرّجين جميعهم.
«الباقون» في الأحياء المدمّرة، هم شهداء ودماء الجرحى وصورٌ وذكرياتٌ آلاف المنازل التي دمرها الانفجار وأكلتْها النيران، في بيروت الألفية الثانية، التي يعاند أهلها للبقاء حيث رحل أحبتهم، ويسعون أن يحققوا بعضاً من عدالة مفقودة. والأرجح لن يجدوها كما لم يجِدوا مَن ذهبت أحلامهم وحياتهم مع رياح الانفجار العاتية.