أين أخطأتُ يا بيروت؟
إذا أغمضتُ عينيّ الآن، كي أرى أحلى صورة في بالي لبيروت، ستكون هذه: شارع الحمرا في يوم ممطر.
وإذا أغمضت عينيّ لأرى أكثر صورة سكين في القلب لبيروت، ستكون هذه: خط معوّج من القطب الجراحية التي تحاول لحم جرح على خد طفلة أصيبت في انفجار 4 آب.
كلما كانت صورتها تعود إلى ذهني، كنت أتردد في قرار النزول هذا الصيف إلى لبنان، حتى امتنعتُ عن الذهاب. للمرة الأولى، منذ ثماني سنوات على مغادرتي لبنان، صار بلدي منفرّاً. يدفعني عنه. ليس بسبب فوضاه، وزحمة السير، وانقطاع الكهرباء، وكل لائحة الأسباب التي تثير تأفف اللبنانيين كلما زاروه. هؤلاء الذين يحاولون فقط إقناع أنفسهم بأن حياتهم حيث يعيشون أحلى، وأنهم فعلاً سعيدون في بلادهم، حيث لا اللهجة هي اللهجة، ولا الأصدقاء هم الأصدقاء، ولا الوجوه العابرة هي الوجوه العابرة، ولا الشوارع، ولا السرفيسات ولا الذكريات ولا الأرصفة ولا الكورنيش. هؤلاء الذين يزورون لبنان كأنما ليبرهنوا لأنفسهم أن خيارهم بالهجرة كان صائباً. ليحاولوا مرة جديدة أن يجيبوا عن سؤال لن يجدوا له جواباً: لماذا هاجرنا؟
دعني منهم. أظلمهم إذ أحكم عليهم بماذا يفكرون. سأحكي عني. في كل مرة عدت إلى بيروت، ذبتُ فيها كما لو أنني كنت هنا البارحة، آخذ فنجان القهوة من بيروت كافيه، نفسه الذي شربته البارحة. أنهي سهرة يوم عادي آخر بالغناء مع الشيخ إمام، على الكورنيش نفسه، وأتفرج على الموج ينكسر على صخور المنارة كأنني، في كل مرة، أراه لأول مرة.
مدينتي هذه. مدينة عمري. سأموت ولن أستطيع أن أدّعي أن مدينة ثانية غيرها لي. أنتِ لي، قالت فيروز. بيروت لي. لهذا سافرتُ ربما، لأنني كنت مطمئناً إلى أنها ستبقى لي في كل مرة أعود إليها. مدينتي هذه، ولم أنتَمِ في يوم إلا لها. كنت مطمئناً أنها بقدر ما أحبّها، تحبني، وأنني إذا وعدتها أنني كلما زرتها لن أنظر إليها بفوقية مغترب، ستعدني بأنها ستظل كما هي، كريهة وقذرة ولا تطاق في لحظة، وفي لحظة ثانية حنونة ساحرة تبتسم كما صباح في جدارية شارع الحمرا. تكتم على النفس والقلب، في ازدحام سير في نفق معتم من أنفاقها، ظهر يوم ثلاثاء عادي، ولا يقاوم جمالها صباح يوم أحد باكر. مدينة أخرى، تعيش فيها الجرذان والقطط الشاردة والنفايات، جنباً إلى جنب مع حكايات الناس وأحلام أطفالهم ومراهقيهم. مع تململ الركاب الخفي من بعضهم بعضاً على الكرسي الخلفي في السرفيس، بينما الجالس في المقعد الأمامي يفيض بفرح حظه. مع “بنزل هون لو سمحت”، و”تفضل..” وتقبيل الألفي ليرة، الأولى لهذا النهار، ووضعها بدلال تحت حاجب الشمس لأنها بداية رزق اليوم، والرزق في بيروت على الله.
لكنني لن أفهم كيف يكون سندويش الشاورما بثلاثين ألف ليرة. هذا ليس سعراً. هذه إهانة لشعب برمته. لن أحسبه على الدولار وأراه قليلاً. لن أفعل. لن أسترخص ناسي الذين استرخصتهم طبقة السياسيين-الأثرياء. لا أستطيع ابتلاع سمٍّ كهذا. لست مغترباً منتفعاً، ولن أكون. كلها أربعة مطارح أذهب إليها كلما عدتُ إلى بيروت. لن أستغل انهيار الليرة الآن، لكنني لن أدفع 15 ألفاً ثمن سندويش فلافل صهيون. عيب عليّ.
لن أزورها الآن، لكنني سأفعل في قريب ما، عاجل. وسأكمل ما تبقى من حياتي، إذا سمحَت حياتي لي، في شوارعها، وسأموت فيها، بلا أدنى تردد. هذه حقيقة ألـ”إن لم يكن عاجلاً، فآجلاً”. لن أموت في مدينة أخرى. سأموت هنا. في بيروت النزقة المتعبة المرهقة التي لا مدينة أخرى تجيد السهر، أو أول النهار، كما هي تجيدهما. بيروت العادية التي أعرفها. بيروت التي تفرجت على حلمها في 17 تشرين الأول من بعيد، وكان وجهها يغمرني كما تغمر عَينا طفل وجه أمه. ومع أنني كنت أعلم أن هؤلاء لن يغيروا لبنان، لكنني كنت فرحاً بأنهم، فرداً فرداً، مختلفون، بأنهم غيروا أنفسهم، وبأنهم مؤمنون، وبأنهم يحبون لبنان كثيراً، وبأن منهم مَن فقَد عينه، ومنهم من فقَد، في حب لبنان، عُمره.
لستُ منهم. هل أنا مستعد لأن أفقد حياتي حبّاً؟ أكذب؟ لن أكذب. قد أرمي حياتي بسهولة رمي محرمة من يدي، لأنقذ حياة واحد من ناسي. هل أفقدها من أجل لبنان؟ بيروت؟ لا أعرف. لم أكن في بيروت حينها لأقرر. أظنني أصلاً صرت أكبر سناً بكثير من أن أرشق الحجارة، ومن أن أتشبث بأذرع رفيقات ورفاق على “الرينغ” كي أمنع رجال الأمن من إزاحتي من الشارع كي يفتحوا الطريق. هؤلاء يحملون حقائب ظهر. طلاب. أكثر يفاعة بكثير من أقارن نفسي بهم. طلاب. كم صافٍ هذا التعبير وحقيقي. لم أر مثلهم في 8 آذار، ولا في 14 آذار. يومها انتشلت الطوائف الحقائب عن أكتافهم وجعلتهم، كغيرهم، مجرد هتّافين.
هؤلاء اختلفوا. هؤلاء لم يجترّوا هتافات. لم يجتروا أفكاراً، ولم يجترّوا لغة معلوكة سابقة. كانوا حباً صافياً. كانوا أنفسهم. ومع أنهم كانوا أكثر هشاشة من أن يصمدوا في وجه الغول اللبناني، الفرانكشتاين، إلا أنني كنت أطفو على بحر من الفرح والفخر بهم لأنهم وجدوا أنفسهم. نيّالهم. عاشوا لحظتهم في حينها. كم جيلاً تمنى لحظتهم هذه، ولم يستطعها؟ لا أحد. لا أحد قبلهم قرر أن يتفاءل بفرديته، بأنه خارج كل التركيبات الحزبية-الطائفية، ويصنع رعباً للطبقة المقرفة إياها، من الزعماء وحاشياتهم، حتى توحدوا ضدهم كما لم يتوحدوا من قبل. كانوا نُبلاً بحتاً بمواجهة حقارة بحتة. هكذا، ومن دون تذاكٍ ولا تثقاف: خير في وجه شر. كانوا خيراً في مواجهة شر. هل انتصر الشر؟ هل انتصر 4 آب على 17 تشرين؟
لا أعرف. أنا مجرد كاتب يرتجل نصاً، عبارة بعد عبارة. أنا مجرد مسافر لن يعترف يوماً أنه “مغترب”، مع أنه، بحكم المنطق، كذلك. فقد نال جنسية دولة أخرى، ومواطنتيها، وبات صوتاً يُحتسب رسمياً في الانتخابات، ومع ذلك، فهو ما زال يعيش في بيروت. في يوم ممطر في شارع الحمرا، حيث أحلى ما يحدث له هو أن يشرب قهوته، بينما ينظر إلى السائرين على الرصيف، يحملون مظلاتهم فوق رؤوسهم، ويطوون أكتافهم إلى الأمام، كأن فعلهم هذا يحميهم من المطر، أو من انفجار، أو من الغول، الأخ الأكبر، الوحش الذي لا وصف له، الأخطبوط الذي يربض بكل أذرعه فوق مظلات أمانهم. يحملون مصاص دمائهم فوق رؤوسهم حيث يذهبون.
لكنها لم تعد كذلك، بيروت العادية التي أحبها وأكرهها في آن. باتت أسوأ من السوء الذي تتمناه أنانيتي لها. السيء التقليدي الذي كان. الذي أعرفه. من دون انفجار. من دون خطوط تتعرج كالأنهار في الوجوه.
فقط، الآن، أريد أن أبوس خدها الممزق، الطفلة التي مزّق خدها انفجار 4 آب. سامحيني، أودّ لو أقول لها. سامحيني على هذا الندب الأبدي في خدك الطري. لقد أخطأتُ حتماً، وخطيئتي الكبرى أنني لا أعرف كيف وأين أخطأتُ. سامحيني.
أحلفك يا مدينة، بدينك، بشوارعك ببحرك بإرصفتك بناسك بمنارتك، أين أخطأتُ؟
لماذا هذا الندب على خد طفلتك يا مدينتي؟ أين أخطأتُ بحقها؟ أين أخطأتُ بحقك يا بيروت؟