المؤمّنون صحياً أصبحوا بلا تأمين رسمياً
كتب خالد أبو شقرا في “نداء الوطن”:
عدوى تقليص خدمات المصارف وتبجّحها بالزبائن واستمرارها كـ”هياكل عظمية” من دون رساميل، بدأت “تتسلل” إلى قطاع التأمين. وعلى قاعدة “تعنترت وما حدا ردني” تستنسب الكثير من شركات التأمين في التعامل مع زبائنها ومقدمي الخدمات، ضاربة بعرض الحائط مبدأي “حسن النية” و”التعويض” اللذين بنيت عليهما فلسفة الضمان.
بعدما “نام” على “حرير” تأمين صحي (IN/OUT) يدفع عليه “دم قلبه” سنوياً، استفاق (ربيع) على صدمة رفض أحد المختبرات الطبية إجراء الفحصوات على حساب التأمين. في البداية أخذ الرفض بـ”ضحكة”، ممازحاً بان تأمينه خاص وليس “ضمان” أو “تعاونية”، لتعود وتؤكد عليه موظفة الإستقبال بانهم توقفوا عن استقبال المؤَمنين على حساب الشركات الخاصة.
المختبرات تتوقف عن استقبال المؤمنين
هذا الواقع المستجد تسبب به “فرض شركات التأمين حسومات كبيرة جداً على فواتير المختبرات، وتحديداً الصغيرة منها، تصل إلى حدود 50 في المئة”، تقول نقيبة المختبرات الطبية في لبنان ميرنا حداد. “إذ في الوقت الذي لا يدفع فيه المؤمن شيئاً مقابل إجراء الفحوصات، تعمد شركات التأمين إلى اقتطاع نصف المبلغ من الفاتورة المرفوعة من المختبر من دون سبب أو علة. الأمر الذي يفقد المختبرات القدرة على الإستمرار. خصوصاً في ظل الإرتفاع الهائل في أسعار الأدوات الطبية، واضطرار أصحاب المختبرات لمجاراة الإرتفاع الهائل بالأكلاف المعيشية، وتأمين استمرارية موظفيهم ومصاريف مختبراتهم”. وبحسب حداد فانه “لا ينقص المختبرات تقليص المزيد من مداخيلها. فالكثير منها يعمل تحت خط الكلفة من دون هذه الحسومات.
فكيف الحال مع اقتطاع نصف المبالغ؟ من هنا كان القرار بالتوقف عن استقبال المؤَمّنين، إلى حين ايجاد آلية العمل المناسبة مع شركات التأمين، التي رفضت حتى الأمس القريب التحاور معنا”. مشاكل نقابة المختبرات التي تضم نحو 400 منتسب لا تقف عند حدود “تجني” شركات التأمين الخاصة، إنما تطال العلاقة غير السوية مع مؤسسات الضمان العام، من وزارة صحة، وضمان إجتماعي وتعاونية موظفي الدولة. فتسعيرة الجهات الأخيرة ما زالت محددة على 1515، في حين أن معظم التكاليف تسعر على 15 ألف ليرة نظرا لكون المختبرات مضطرة إلى شراء الكواشف والمستلزمات وقطع الغيار من الشركات على سعر السوق. “من هنا كانت صرختنا لتوحيد المعايير مع كل الجهات الضامنة الخاصة والعامة”، بحسب حداد. “لان استمرار الوضع على ما هو عليه سيدفع إلى تحميل المضمون فرق التكلفة التي تسددها الجهات الضامنة. وللتوضيح فان الفحص المحدد سعره بـ 150 ألف ليرة (100 دولار سابقاً) أصبحت كلفته على المختبر مضروبة بـ 10 مرات على أقل تقدير، وهذا الفرق سيتحمل الجزء الأكبر منه المريض أو المضمون”.
المشكلة بالنظام
محاولة شركات التأمين ومختلف القطاعات الإقتصادية ابتداع طرق وهندسات مالية تضمن استمراريتها، لا يمكن فصله عن “وجود نظام شرس “يعوم” على “جثث” جميع من في الوطن ليبقى يتنفس”، بحسب الكاتب في الإقتصاد السياسي د. بيار الخوري. “فهذا النظام اللاعقلاني المستعد لتدمير كل شيء ليبقى موجوداً، أدخل الجميع في متاهة لا مخرج منها إلا بتحرير سعر الصرف. وهذا ما طالبنا به منذ بدء الأزمة قبل عامين. إلا أن ضرورة استتباع مثل هذا القرار بتحرير الأجور، وتحويل التزامات الدولة من سعر صرف 1515 إلى السعر الحقيقي، جعل المسؤولين يرفضونه. نأت الدولة بصفتها المستدين الأكبر بنفسها وحملت القطاع الخاص والمواطنين عبء الأزمة.
فدين الدولة بالليرة المقدر قبل الأزمة بـ 75 تريليون ليرة، أصبح مع انهيار سعر الصرف يساوي 5 مليارات دولار، بدلاً من 50 ملياراً. ما يعني أن الدولة “نفست” 95 في المئة من دينها بالليرة اللبنانية عبر تحميل الدائنين والشركات والضمان الإجتماعي… وغيرها الكثير من المؤسسات ثقل الدين. بمعنى آخر لقد “سرقت” 45 مليار دولار، من أمام جميع القطاعات وتركتها تتخبط بعضها ببعض الآخر. وما يحصل اليوم مع شركات التأمين هو عينة عن هذا الوضع. حيث تلجأ الشركات إلى تسديد إلتزاماتها عبر الشيكات المصرفية وتترك للمؤمن خياراً من ثلاثة: إما قبض الشيك بـ 3900 ليرة أي بخسارة أكثر من 70 في المئة من قيمة التأمين، أو وضعه في الحساب والإنتظار، أو تسييله على 1500 ليرة وخسارة 95 في المئة من قيمته.
تفاقم الأزمة الصحية
المأزق “الصحي” مع شركات التأمين مرشح للتصاعد بوتيرة مخيفة في الأيام المقبلة. فارتفاع سعر الصرف المترافق مع “تقطير” مصرف لبنان اعتمادات استيراد الأدوات الطبية المدعومة، لن يترك المؤمنين من دون تأمين فقط، بل سيحرمهم أيضا من إمكانية الإستشفاء على حسابهم. فـ”أكثر من 73 في المئة من شركات استيراد المعدات الطبية تتوقف تدريجياً عن الإستيراد من الخارج” بحسب نقيبة مستوردي المواد والأدوات الطبية سلمى عاصي. و”هذا ما بدأنا نلمسه بفقدان الكثير من المستلزمات الطبية والإبر الملونة وكشوفات المختبرات”. والمشكلة بحسب عاصي هي أن “فقدان الوكلاء للبضائع في الداخل، يقابله رفض الشركات الأم تسليم الطلبيات الجديدة بسبب وجود فواتير متأخرة غير مدفوعة في مصرف لبنان.
وإن لم يتم فتح الإعتمادات فستتوقف هذه الشركات كلياً عن تزويد السوق المحلي باحتياجاته كونها لا تتعامل بـ”الكاش” أو النقدي. وبحسب عاصي فان “فك مصرف لبنان مؤخراً أسر بعض طلبات الإستيراد لا يعول عليه كون هذه الطلبات لا تشكل إلا جزءاً بسيطاً جداً من الطلبات المقدمة والمقدرة قيمتها بنحو 80 مليون دولار، وهي في جميع الحالات طلبات مسبقة تعود إلى العام 2020 وكان المركزي قد وافق عليها في شهر شباط وطلب من المستوردين وضع الأموال بالليرة اللبنانية في المصارف ليجري تحويلها. ومن وقتها لم يتحول دولار واحد لغاية الأيام القليلة الماضية. ومن وجهة نظر عاصي فان “المشكلة لن تحل إلا بموافقة مصرف لبنان على الطلبيات المدعومة على سعر 1875 (85 مدعومة على سعر 1515. و15 في المئة مدعومة على 3900 ليرة)، والإفراج عن الفواتير المقدمة منذ 7 أشهر. كما من المطلوب الركون إلى آلية دعم واضحة وصريحة من خلال دعم المواطن وليس الشركات والمستوردين. عندها تحل الأزمة وننتهي لمرة واحدة ونهائية من الضبابية. وإلا سنستفيق كل يوم على فقدان منتج من الصعب تأمينه بالسرعة التي يتصورها البعض. أما الحديث عن تخزين للأدوات الطبية فترفضه عاصي بحجة أن “المدعوم سُلم، وغير المدعوم يباع على سعر السوق”.
صحيح أن “الكل تحول إلى ضحية لعملية إحتيال غير مسبوقة”، من وجهة نظر خوري. و”كل من في السلطة متفقون على تدفيع القوى المنتجة حق الأزمة”. إلا أن ما يؤخذ على شركات التأمين بحسب متابعين هو عدم تعلمها من تجربة المصارف المالكة لقسم كبير منها، ومحاولتها “تفويش” نفسها على حساب المؤمنين ومقدمي الخدمات من دون وجود نية للتضحية ولو بجزء بسيط من أموالها الخاصة وارباحها المجمعة عبر سنوات البحبوحة الطويلة. وهي إن لم تبادر إلى إعادة هيكلة ذاتية ودمج ستتحول إلى ZOMBIE INSURANCE ويتحول العميل إلى عبء لن تعرف كيف تتخلص منه.