في يوم الغرق من أين تأتي قشّة الخلاص؟
ينتظر اللبنانيّ المسكين بطاقة الدعم المرجوّة، ويسترق الأخبار حول احتمال رفع الدعم عن المواد الحيويّة أم لا، من الخبز إلى الدواء، وقلبه ما زال غير مطمئن على ودائعه الّتي قد تتلاشى في ليلة وضُحاها، وتأخذ معها ما تبقى من احتياطيّ في ظلّ فقدان مصداقيّة الأرقام المعلنة.
كما يتمسّك المواطن بأيّ قشّة تستطيع أن تؤخّر غرقه، وها هو يندهش للكرم المفاجئ في إثر مبادرة مصرف لبنان بإلزام المصارف التجاريّة بتسديد ٤٠٠ دولار أميركيّ إضافة إلى ما يوازيها بالليرة اللبنانيّة وفق سعر منصّته SYRAFA (حوالى ١٢,٠٠٠) انطلاقًا من الأوّل من تمّوز للحسابات القائمة منذ تشرين الأوّل للعام ٢٠١٩. لكن هذه القشّة عجيبة، فكيف لها أن تصل إليه مع وجود عوائق تدفعها بالاتجاه المعاكس لأنّها أمام حركة “مدّ وجذر” ضمن عمليّة تفاوض، ونقصد بذلك ردّ جمعيّة المصارف الّتي أعلنت أنّها “غير قادرة على توفير أيّ مبالغ نقديّة بالعملية الأجنبيّة مهما تدنّت قيمتها”، يُضاف إلى المشهد إصرار الحكومة على عدم رفع الدعم، وتعنّت بعض الجهات بضرورة عدم المساس بالاحتياطيّ الإلزاميّ.
إنّ الاحتياطيّ الإلزاميّ هو نسبة محدّدة مُتّفق عليها مسبقًا، لذلك الجلبة الّتي تحدث اليوم مصطنعة نوعًا ما، لأنّه إجراء احترازيّ يقوم به أيّ مصرف مركزيّ لحماية المودعين… لكنّ لبنان اليوم تخطّى هذه المرحلة “الاحترازيّة” نحو مرحلة الخطر، فما نفع طوق الإنقاذ إذا كانت الدولة ترمي مواطنيها في قلب الدوّامة؟
على ما يبدو أنّ ثمّة توجّهًا مبطّنًا لتخفيض نسبة الاحتياطيّ الإلزاميّ والتوظيفات الإلزاميّة. إذ هناك اجتهادات كثيرة عن أحقّيّة مصرف لبنان في التصرّف بالاحتياطيّ الإلزاميّ، وفق ما جاء في التعاميم الصادرة عنه (التعميمان ٨٤ و٨٦). إذ تشمل هذه العناصر جميع أنواع الودائع الّتي تتلقّاها المصارف مهما كانت طبيعتها. وأيضًا، سندات الدين، وشهادات الإيداع، والشهادات المصرفيّة، والقروض. وكلّ ما يخصّ المادّتين ٧٦ و٧٧ من قانون النقد والتسليف.
وكذلك، نجد أن النسبة الّتي يحدّدها البنك المركزيّ (يزيدها أو يُنقصها) تهدف إلى التحكّم بالعمليّات الماليّة وكمّيّات النقد في السوق. لكنّنا في مرحلة الانهيار، والسيولة الموجودة تُصرف على الأساسيّات لا على الاستثمارات والكماليّات، وقيمة العملة المحليّة تنخفض، من دون لجوء المواطن إلى الاقتراض بفوائد مرتفعة. وبحسب بيان مصرف لبنان الصادر في ٤ حزيران ٢٠٢١، فإنّ تنفيذ خطّته سيرتفع الكتلة النقديّة إلى مبلغ يصل ٢٦-٢٧ تريليون ليرة لبنانيّة في عام واحدٍ فقط، بغية تسديد ما يقارب ال٧٠٪ من عدد حسابات المودعين وفق تحليلاته.
وبعد أن تشاور مصرف لبنان ضمن القوانين والأصول التي ترعى عمله، نجده يُحضّر برنامج “إنقاذ” بواسطة دفعات مقسّطة ولفترة محدودة لمبالغ بسيطة شهريًّا، وإذ به يقسّم بملء إرادته أجزاء مِنْ مركب النجاة الذي يتمثّل بالاحتياطيّ الإلزاميّ، ليوزّعه على شكل ألواح خشبيّة قد تمدّ بعضهم بأملٍ ما، ويُريح الطبقة الحاكمة من صوت صراخهم لفترة أطول. وجلّ أهدافه قصيرة المدى، في ظلّ عدم معرفتنا مصير ما تبقى من الاحتياطيّ الإلزاميّ.
يبقى السؤال عن نسبة التوظيفات الإلزاميّة من مجمل الودائع بالعملات الأجنبيّة، الّتي يحدّدها مصرف لبنان، وخفضها من نسبة ١٥٪ إلى ١٤٪، ومن يدري إن كانت هذه النسبة ستتغيّر بحسب الضغوطات الراهنة إلى نسبة قد تصل إلى ما دون ال ١٠٪ متذرّعًا باستراتيجيّة السوق المفتوحة ورفعه الدعم الجزئيّ أو الكلّيّ.
يتأجّج خوف المواطن عندما يتساءل عن هذه الفئات المتنوّعة الّتي تعاونت فيما بينها على مدى سنين طويلة: هل تتعاون اليوم على ضمان غرقه وغرق “البلد بما فيه”؟ فما يهمّ المنظومة الحاكمة ليس إنقاذ المواطن، بل إطالة فترة تخبّطه وصراعه، وما يمكن أن يمرّ في باله من أوهام انخفاض سعر الصرف، وبقاء الدعم شكليًّا.
مأساة اللبنانيّ هو أنّه سلّم رقبته للأشخاص الخطأ، يقاوم التيّار متوجّسًا من الخطط الاقتصاديّة الموضوعة الّتي تنهش الاحتياطيّ الإلزاميّ من دون توقّف. في بداية انتفاضة تشرين ٢٠١٩ كان يملك المواطن الزخم والطاقة ليصرخ ويستنجد السياسيّين لانتشاله. تكتمل المأساة اليوم، لا في أنّ قوى اللبنانيّ قد خارت وشارف على الاستسلام، بل في أنّه عندما علت عليه أمواج الضيق والفقر استنجد بمن لا يكترثون…