السلطة تجوّع 147 ألف عائلة: من يعلّق أموال البنك الدولي؟
كتب عبادة اللدن في “أساس ميديا”:
أصبحت الأموال جاهزة لصرف المساعدات النقدية لنحو 147 ألف أسرة لبنانية و87 ألف تلميذ، ولا يحتاج الأمر إلّا إلى إسراع الحكومة المستقيلة ومصرف لبنان في تنفيذ الشروط المنصوص عليها في اتفاق “المشروع الطارئ لدعم شبكة الأمان الاجتماعي” مع البنك الدولي. لكنّ الأمور لا تسير على ما يرام، لدى السلطة ومصرف لبنان.
كان يُفترض أن يبدأ الصرف خلال شهر واحد من تاريخ إقرار الاتفاق في مجلس النوّاب في 12 آذار الفائت، وفق ما وعدت به نائبة رئيس مجلس الوزراء وزيرة الدفاع في تلك الجلسة، لكن بعد شهر إلا قليلاً يبدو المسار متعثّراً إثر النقاش المحتدم مع البنك الدولي حول آليّة الصرف وسعر الصرف المعتمد في صرف المساعدات، وأشياء أخرى.
يتمثّل الإشكال، في ما يجري التفاوض عليه مع مصرف لبنان، حول كمّ الدولارات الذي يدخل إليه من البنك الدولي، وكمّ الليرات التي يطبعها ويصرفها في المقابل.
يسمح الاتفاق، مبدئياً، بصرف 200 ألف ليرة مبلغاً مقطوعاً لكل أسرة مهما كان عدد أفرادها، يضاف إليه مبلغ 100 ألف ليرة لكل فرد، بحدّ أقصى ستة أفراد، لتغطية الحاجات الغذائية الأساسية. وبذلك يكون الحدّ الأقصى لما تحصل عليه الأسرة 800 ألف ليرة شهرياً.
لكنّ هذه الأرقام ليست ثابتة، بل يمكن أن تتغيّر وفق تطورات التضخّم وأسعار الصرف. فالبنك الدولي كان مصمّماً في البداية على دفع المساعدات بالدولار، لتحافظ على قدرتها الشرائية، ثم رضخ لإصرار الحكومة اللبنانية على صرفها بالليرة، وفق الآلية التالية:
تقوم الإدارة المركزية للبرنامج في رئاسة مجلس الوزراء بتحويل الأموال بالدولار إلى الحساب المصرفي المحلي لبرنامج الأغذية العالمي الذي يدير الشق النقدي للبرنامج، ثمّ يقوم البنك بشحن البطاقات المخصّصة للمستفيدين بالليرة اللبنانية بأحد سعرين، أيّهما أعلى:
1- سعر الصرف الحقيقي الثابت (the constant real exchange rate)، أي سعر السوق.
2- أعلى سعر صرف رسمي خاضع للتنظيم (regulated) زائد 60%، على أن يُحدَّد هذا السعر بالتشاور مع مصرف لبنان ويُعدّل على أساس منتظم، بما يراعي مستجدّات التضخّم.
لكنّ المعضلة المستجدّة هي المنصّة الجديدة التي يعتزم مصرف لبنان إطلاقها وإشراك البنوك فيها، والتي يُتوقّع أن يكون سعر الصرف فيها قريباً من 10 آلاف ليرة. هذه المنصّة تنسف خطة مصرف لبنان للهيمنة على دولارات قرض البنك الدولي، إذ إن أعلى سعر صرف رسمي خاضع للتنظيم يصبح 10 آلاف ليرة وليس سعر الـ3900 ليرة السائد في منصّة “صيرفة”. وعندها يصبح السعر أعلى السعريْن التاليّيْن:
– إمّا 10,000 + 60% = 16,000 ليرة.
– وإمّا سعر الصرف الحقيقي الثابت أيّاً يكن.
ينصّ الاتفاق مع البنك الدولي بوضوح على إجراء مراجعة للمساعدات النقدية بالليرة اللبنانية كل ربع سنة، أو على فترات أكثر تواتراً إذا اقتضت الحاجة، لضمان ألّا تتغيّر القدرة الشرائية للمساعدات النقدية بالليرة اللبنانية من شهر إلى آخر. إذ إنّ القاعدة الأساسية هي ضمان أن يكفي المبلغ الذي تتسلّمه الأسرة لتغطية قيمة المكوِّن الغذائي في “سلة الإنفاق الدنيا لتلبية الاحتياجات الغذائية الأساسية (SMEB)”، لضمان استمرارية الحياة. وقد كان هذا الرقم مقدّراً بمئة ألف ليرة لبنانية للفرد الواحد عند إقرار الاتفاق، يضاف إليها مبلغ 200 ألف ليرة مبلغاً شهريّاً ثابتاً للأسرة الواحدة لتغطية النفقات غير الغذائية. لكن مع ارتفاع سعر صرف الدولار 30% أو أكثر منذ ذلك الحين، قد لا تكون تلك التقديرات صالحة الآن، ولا بدّ من إعادة التفاوض لزيادة قيمة المساعدات بالليرة.
فماذا يفعل مصرف لبنان لمواجهة المعضلة؟ هل يؤخّر إطلاق منصّته الجديدة؟ أم يسعى لحلّ بديل مع البنك الدولي؟ أم يسلّم بدفع المساعدات وفق سعر صرف أكثر سخاء؟
الآليّة الجديدة
ينصّ الاتفاق بصريح العبارة على عدم جواز سحب أيّ أموال قبل أن تستوفي الدولة اللبنانية شروطاً محدّدةً للحوكمة والحدّ من المحسوبيّات، منها إنشاء آلية رفع المظالم في وزارة الشؤون الاجتماعية، من حيث الاختصاصات والصلاحيات والوظائف والموظفين، “بالشكل المقبول من البنك الدولي”، إضافة إلى توقيع اتفاق مع برنامج الأغذية العالمي الذي سيتولّى تنفيذ المشروع، والأهمّ تعيين جهة ثالثة للمتابعة والرصد للتحقّق من أهليّة المستفيدين.
بينما تشير المعلومات في بيروت إلى عودة حليمة اللبنانية إلى عادتها القديمة في التنافس على ما يرد من دولارات طازجة من الخارج، مهما كان واقع البلاد حرجاً. ويعود سبب شدّ الحبال إلى الرغبة في الهيمنة على آلية بناء “السجل الاجتماعي الوطني” الذي يحدّد الأسر المستفيدة على أساس تقويم احتياجاتها وظروف معيشتها. وتتنافس قوائم عديدة للمستفيدين حالياً، أبرزها قاعدة بيانات البرنامج الوطني لدعم الأسر الأكثر فقراً، التي تضمّ أكثر من 150 ألف طلب، ومنصّة البلديات المشتركة (Impact) التي تحوي 105 آلاف طلب. وتكمن الصعوبة في إنشاء سجلّ موحّد لا تدخله قوائم الأحزاب والسياسيّين، ولا يكون عرضةً “للشرشحة” اللبنانية، على نحو ما جرى في توزيع اللقاحات.
يتمثّل الوجه الآخر للإشكال في التنافس على الهيمنة على إدارة البرنامج نفسه. ففي نقاشات اللجان المشتركة في مجلس النواب، بدا “حزب الله” حريصاً على إخضاع البرنامج لأكبر قدر من السيطرة من الجهاز الإداري في وزارة الشؤون الاجتماعية، تحت لافتة “عدم الخضوع لهيمنة البنك الدولي وبرنامج الغذاء العالمي”. فيما أرسى اتفاق القرض، الذي أقرّه البنك الدولي، معادلة دقيقة لإدارة المشروع تتشارك فيها ستّ جهات: لجنة وزارية برئاسة رئيس الحكومة، “تحظى بالدعم من لجنة فنّية يرأسها وزير الشؤون الاجتماعية”. وتتولّى وحدة مركزية في رئاسة مجلس الوزراء الإدارة الكلّيّة للمشروع والإشراف على تنفيذه، فتدير قاعدة بيانات المستفيدين من الأسر والتلاميذ، والجوانب المالية والتعاقدية للمشروع. وتبدأ الوظائف التنفيذيّة بالانتقال إلى وزارة الشؤون الاجتماعية في النصف الثاني من فترة المشروع، بعد إجراء تقويم مؤسّسيّ للتأكد من وجود “ما يكفي من تطمينات وشواهد على القدرة المؤسّسيّة لأداء هذه الوظائف بالوزارة”. وللوزارة دور آخر يتمثّل في التحقّق من أهليّة المستفيدين، من خلال فريق مفتّشيها.
وهناك أدوار أخرى لفريق استشاريّ من الخبراء، ووزارة التربية والتعليم العالي، التي تراقب أيضاً حضور التلاميذ المستفيدين من المساعدات، وبرنامج الأغذية العالمي، في تنفيذ الإجراءات الخاصّة بالمساعدات النقدية.
يبدو أنّ تلك التوازنات في الأدوار دقيقةٌ إلى حدّ إشعال فتيل الخلافات في أيّ لحظة، وتهشيم القليل الباقي من الثقة بمؤسّسات بقيّة دولة.