رسائل مؤتمر باريس: إنفجار القنبلة الإجتماعية لن يُوفّر أحداً
كتب بشارة غانم البون:
لا بد من التوقف، من حيث الشكل، عند بعض المظاهر المعبرة التي رافقت التئام مؤتمر دعم الشعب اللبناني في العاصمة الفرنسية.
أولاً، كان الرئيس ايمانويل ماكرون الذي افتتح المؤتمر مباشرة من قصر الاليزيه، محاطاً إلى يمينه بوزير خارجيته جان-ايف لودريان وإلى يساره بمستشاره الديبلوماسي ايمانويل بون (السفير الفرنسي السابق في بيروت). وهو التفت الى رئيس الديبلوماسية الفرنسية اكثر من مرة في معرض سرده لبعض الوقائع والمعطيات اللبنانية.
ثانياً، اللافت للإنتباه ان ماكرون، وللمرة الاولى في مثل هذه المؤتمرات الدولية، لم يكن يرتدي قميصاً وربطة عنق بل كنزة، أي تعمد إرتداء لباس غير رسمي (casual).
ثالثاً، بعد القاء كلمته الافتتاحية، اعطى الرئيس الفرنسي الكلام لممثلين عن “الشبيبة اللبنانية” وليس للأمين العام للامم المتحدة انطونيو غوتيريس الذي كان يشارك ماكرون في رئاسة المؤتمر وذلك في التفاتة خاصة لدور الشباب “الذين يمثلون فعلاً كرامة ومستقبل هذا البلد الشقيق والذي يبقى حاضراً في فكرنا وقلوبنا”، على حد قول الرئيس الفرنسي، وفي ذلك إبداء رغبة واضحة في اعلاء صوت هذه الشريحة وابرازه داخليا وخارجيا.
رابعاً، مداخلة غوتيريس كانت عبارة عن “كلمة مسجلة”ً حسب الموقع الاخباري لمنظمة الأمم المتحدة.
خامساً، جاءت كلمة الرئيس اللبناني ميشال عون باللغة الانكليزية وليس بالعربية كما هي العادة ولا حتى باللغة الفرنسية، أي لغة الدولة صاحب الدعوة!
سادساً، المشاركة بقيت مرتفعة نسبيا (32 دولة، 12 منظمة دولية و7 جمعيات من المجتمع المدني اللبناني). واذا كانت الوعود بالمساعدات من قبل الجهات المانحة تجاوزت قيمتها في مؤتمر الدعم الاول في اب/اغسطس الماضي من 257 مليون يورو الى 280 مليون يورو تم صرفها عمليا، فان البيان الختامي لمؤتمر الدعم الثاني خلا من رقم للالتزامات الجديدة بالرغم من الاعلان عن انشاء صندوق الدعم الدولي المتخصص بادارة البنك الدولي.
أما من حيث المضمون، فقد حمل المؤتمر رسائل متعددة الإتجاهات داخلياً (لبنانياً) وخارجياً:
الرسالة الأولى ـ وتُقرأ من عنوانها ـ تمثلت في العنوان الذي اختارته باريس للمؤتمر. فقد حرصت الرئاسة الفرنسية على اعتماد تسمية لافتة للنظر وهي “مؤتمر دعم سكان لبنان (او السكان اللبنانيين)”(Conférence de soutien à la population libanaise)، وهي تخلت بذلك عن التسمية التي اختارتها لمؤتمر الدعم الأول في 9 آب/أغسطس الماضي “المؤتمر الدولي لدعم بيروت والشعب اللبناني” (Conférence internationale de soutien et d’appui à Beyrouth et au peuple libanais). وقد فسرت اوساط مطلعة ومتابعة للملف اللبناني في باريس بانها رغبة فرنسية واضحة ومزدوجة في آن:
الاولى، ابراز “حصرية الهدف الاساسي للدعم والوجهة الرئيسية لمساعدات الاغاثة الانسانية العاجلة والملحة” الا وهي تلبية احتياجات السكان اللبنانيين الحياتية والتخفيف من معاناتهم”.
الثانية، التعبير بما لا يقبل الشك عن انعدام الثقة بالسلطات السياسية اللبنانية القائمة، ايا كانت، للقيام بمهمة الاشراف على توزيع المساعدات الدولية خصوصا في ظل حال الضياع المستحكم ما بين حكومة مستقيلة تصرّف الأعمال وحكومة بديلة لم تبصر النور بعد.
الرسالة الثانية، تأكيد ماكرون الشخصي وباسم فرنسا على الالتزام بالوعود والتعهدات “بعدم التخلي عن لبنان وترك شعبه وحده لمصيره في المعاناة” اضافة الى الابقاء على “المطالبة الملحة والمتشددة بضرورة المباشرة بتنفيذ الاصلاحات والانجاز السريع للتحقيق في انفجار مرفأ بيروت وكشف نتائجه”.
وتختصر الاوساط الفرنسية هذه الرسالة بالقول “الالتزام مستمر والاهتمام مستمر والضغط مستمر”، ولذلك جرى التأكيد على عزم الرئيس الفرنسي القيام بزيارة ثالثة للبنان هذه السنة وقبل نهاية شهر كانون الاول/ديسمبر الحالي.
الرسالة الثالثة، تمثلت بالتحذير (الفرنسي والدولي والإقليمي) وبرسم السلطات الرسمية اللبنانية والفرقاء السياسيين أجمعين، وبلغة “واضحة وصريحة وحازمة” وتصب في اتجاه واحد ألا وهو التنديد بالتقاعس في تشكيل “حكومة المهمة الشفافة والفعالة والقادرة والمتمتعة بالصدقية” والمباشرة بتنفيذ الإصلاحات المطلوبة منها، اضافة الى حثها على وضع الخلافات السياسية والمصالح الشخصية جانبا والتخلي عن المناورة والتهرب من تحمل المسؤوليات في عملية الانقاذ الملحة من حال الانهيار و”الافلاس والكساد المتعمد”، وربط الدعم المالي وتحريك مؤتمر “سيدر” بتنفيذ خارطة الطريق السياسية والمالية المتفق عليها منذ أيلول الماضي.
والملاحظ ان موقف فرنسا تطابق مع مواقف الامم المتحدة والاتحاد الاوروبي ومعظم الدول المشاركة حتى ان موقف الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي ذهب في الاتجاه نفسه محذرا من “حال الانسداد السياسي” ومن “حجم التحديات التي تواجه لبنان خصوصا أن أمنه واستقراره باتا مهددين مجدداً”، مشدداً على ان هذا المؤتمر رسالة الى السياسيين اللبنانيين مفادها ان العالم مستعد لمساعدة لبنان عندما يتم تأليف حكومة من التكنوقراط والاختصاصيين بعيداً عن الاصطفاف السياسي.
الرسالة الرابعة، للمرة الاولى يجري التصويب العلني وبشكل مباشر على ادارة المصرف المركزي اللبناني وحاكميته وسياساته وخياراته المالية، وقد برز ذلك خصوصاً من خلال دعوة رئيس البنك الدولي ديفيد مالباس السلطات اللبنانية إلى الانخراط في إصلاحات ضرورية شاملة ومن بينها في القطاع المالي في حين أكدت مديرة صندوق النقد الدولي كريستالينا جورجييفا على “الحاجة إلى إطار مالي منسق وإلى استراتيجية موثوقة لإعادة تأهيل النظام المصرفي”.
واللافت للإنتباه ان هذا التصويب السياسي ترافق مع تسليط اضواء اعلامية اميركية واوروبية عشية المؤتمر واخرها كانت صحيفة “لوموند” الفرنسية المرموقة والمعروفة برصانتها وصدقيتها والتي خصصت ملفا كاملا للوضع المالي والمصرفي في لبنان مع عدة مقالات وافتتاحية حيث اعتبرت فيها “ان الفساد وتسلط الطبقة الحاكمة جعلا لبنان وحشا غير قابل للحكم”، ومتسائلة “هل ييأس منه الأصدقاء”؟ كما توقفت عند ظاهرة خاصة في لبنان حيث “هناك مصرف مركزي لا يمكن المساس به والتدقيق في حساباته”، وكيف اصبح “دولة داخل الدولة والصندوق الاسود لنظام سياسي تسبب بمصائب لبنان”.
الرسالة الخامسة، وهي بمثابة قطبة مخفية. حيث تكشف هذه الاوساط ان الاهتمام الفرنسي والاوروبي بابقاء يد العون ممدودة الى لبنان اقله انسانيا وحياتيا نابع من تخوف جدي من استغلال بعض القوى الاقليمية، الاوضاع الاجتماعية الصعبة نتيجة تردي الاحوال الاقتصادية من خلال تقديم المساعدات والدخول على خط الجمعيات. وتتوجه الانظار في هذا الاطار الى “التمدد التركي في مناطق الشمال”. وتشير الاوساط الى عدة خطوات تمت في الاشهر الاخيرة ومنها زيادة عدد الزيارات من قبل شخصيات لبنانية سياسية ودينية وناشطين اجتماعيين الى تركيا وتعزيز عمل الجمعيات التي تتلقى مساعدات من انقرة. أما العنصر الجديد فهو القلق من عملية استعادة الجنسية التركية لعدد لا بأس به من اللبنانيين (الارقام المتداولة من مئات الى الاف اللبنانيين) وبالتالي تشكيل “اقلية جديدة” يمكن في المستقبل وعلى المدى الطويل توظيفها واللعب على وتر حمايتها. من هنا ترى الاوساط انه “من المهم المحافظة على الاستقرار الاجتماعي والامن الغذائي في لبنان وعدم ترك الساحة مفتوحة لتدخلات خارجية مُقنّعة”، لا سيما في ظل انكفاء الاهتمام السعودي في جانبيه السياسي والاجتماعي.
وإذ حذرت هذه الأوساط من إنكشاف لبنان أمنياً بصورة غير مسبوقة منذ سنوات، رأت ان كل المساعدات الخارجية هي اشبه بمسكنات تساعد المريض اللبناني على تخفيف أوجاعه المعيشية والمرضية لكن العلاج الاساس هو اكثر من اي وقت مضى بيد الفرقاء السياسيين اللبنانيين الذين عليهم المبادرة وبسرعة الى تفكيك هذه القنبلة الاجتماعية الحياتية الموقوتة التي في حال انفجارها لن توفر قوة شظاياها احداً والمدخل الوحيد لوقف التدهور وحال الانهيار يكمن في تأمين شروط عودة الثقة في الداخل واستعادة الصدقية امام الخارج بشكل سريع وذلك قبل فوات الاوان.