درسٌ للبنانيّين من حزينٍ في برلين
كتب زياد الصائغ في موقع mtv:
يجلس أحد مفكّريّ لبنان الكِبار يدخِّن غليونه بصمتٍ في برلين، غارقاً بتفكيرٍ عميق في انتحار أفضل صيغةٍ كَونيّة لإدارة التنوّع، كان يمكن أنّ يقدّمها وطن الأرز. حزينٌ هو حتى الكآبة.
برلين حجزته عن العودة إلى الولايات الأميركيّة المتحدة لبعضِ دقّةٍ في حالته الصحيّة. فكَّر في زيارة بيروت، لكنَّ ألَم قلبه على استمرار قتلها، وكلّ إخوتها على امتداد الخارطة اللبنانيّة منعه من ذلك.
كانت زيارتي له سريعة. تقصّدت فيها الغَوص في سؤاله عن مسبّبات الأزمة عندنا، بعيداً عن انتهاج كلاسيكيّة الإغراق في توصيفها. لم أَكَد أستهِلُّ مداخلتي التساؤليّة حتّى نهَرني بحدَّةٍ قائلاً: “ماذا تفعل النّخب الفكريّة والاقتصاديّة لإنهاء منظومة القتل والفساد؟ إن لَم نبدأ من هنا فليس من إمكانٍ لنِقاشٍ بنّاء!”.
نظرتُ إليه بخَفرٍ وهمَمت بالإجابة. رفع غليونه يتصاعد منه دُخان عطِرٌ وأضاف بزجريّة: “كُلّ هؤلاء يريدون السُّلطة. أغلبيّتهم وأنا مقتنع بذلك لا يحمِلون مشروعاً متكاملاً. حتّى من يدَّعون ذلك متورّطون في لوثةٍ غير سليمة”.
حاولت التدخّل، فأكمل بحرقةٍ لا تخلو من عدوانيّة: “لا تٌحدّثني عن هذا وذاك، هؤلاء وأولئك. قابعون هُم في شوفينيّةٍ قاتِلة. لا أتكلَّم عن المنظومة. هذه سقطت في عُريٍ أخلاقيّ. لا مكان لها في لبنان الجديد. أتكلّم عن بعض حامِلي بيارق التغيير والتطوير. حديثهم جميل، لكن ماذا عن منهجيّة أدائهم واستدامتها. صِفر . وأرجوك ألّا تنطلِق في مسار إقناعي بالعكس. كلّهم لديهم ارتباطات ليس بالخارج بالضرورة، بل بكثيرٍ من العُقَد الذاتيّة والموضعيّة. لن يحتمِلوا لا النقد ولا الاستراتيجيا. التّكتيك يحرّكهم ومراكمة المواقع، ولو شكليّاً”.
قاطعته فيما كان يهُمّ بتنظيف غليونه: “ألا تعتقد أنّك تحكم علينا بالإعدام الكيانيّ؟ ثمّة ما نُراهن عليه، ومن نُراهن عليهم. سينتصر لبنان الحقيقيّ وسنسترِدّ الدولة المخطوفة كما هويّتنا المقتولة”. رَمَقني، وهو يحشو غليونه بالتبغ مجدّداً بلذّةٍ تزخر بها عيناه، وقال: “البراءة لا تصنع رجالات دولة. الزئبقيّة الرّجراجة لا يمكن أن تغطّيها البراءة. الكلام الجميل من دون أفعال يُنتِج خيبات. نعم سينتصر لبنان لكن ليس بذهنيّاتٍ تُبرِّر ما فعَلت، وتندم على ما كان يجب ألّا تفعله . المركنتيليّات مقتلة لبنان. أُنهُوها وأُنهوا معها الشوفينيّات.
في حركة التاريخ الجدليّ حينها يتأكّد أن لبنان في إطلاقيّةٍ فريدة سَيَحيَا”.
إستعدَدتُ لردّ نقديّ. طلب إليّ بمحبّة: “إقرأ مذكّرات ونستون تشرشل فيما نُشِرَ منها، ولا تنسى شارل مالك وكمال يوسف الحاج”.
نظرتُ إليه باحترام وصمتتُ. كثيرٌ من العودة إلى الجذور نحتاجُها.