كتب جورج شاهين في “الجمهورية”:
قد لا يصدّق أحد، إن قال انّ ما شهده مخيم «عين الحلوة» لا علاقة له بما شهدته «مدينة العلمين» من لقاء على مستوى الأمناء العامّين للفصائل الفلسطينية برعاية مصرية مباشرة وعلى خلفية التعاون المُستجد مع تركيا. ولكن قول العكس قد يكون منطقياً، ذلك أن التزامن بين ما جرى في القاهرة وشرق صيدا يدفع في هذا الإتجاه، إن استند القارئ إلى ما تشهده الساحة الفلسطينية من تجاذبات اقليمية ودولية. وعليه، كيف يمكن تفسير ذلك؟
تزامناً مع المعلومات التي بدأت تتسرّب عن مشروع المصالحة الكبرى الذي تقوده مصر من خلال رعايتها لأكبر لقاء موسّع على مستوى الأمناء العامين للفصائل الفلسطينية، أطلّت الاحداث الامنية على طريقة «الآخبار العاجلة» من لبنان الى مصر من أكبر مخيم فلسطيني في لبنان يتميّز عن نظرائه بوجود مجموعات من جميع الفصائل الفلسطينية المشاركة في لقاء العلمين وتلك المناهضة له. قبل أن تتطور العمليات العسكرية لتستهدف حركة «فتح»، إحدى اكبر فصائل منظمة التحرير الفلسطينية التي تحظى بصفة «الممثل الوحيد للشعب الفلسطيني» منذ عقود من الزمن، ولم تنجح بعد رغم تسلّمها زمام السلطة الفلسطينية قبل أكثر من ثلاثة عقود في توحيد كل الفصائل التي نَمت على جنباتها قبل ان تتطور الامور على الساحة الفلسطينية وصولاً الى خروج غزة عن سيطرة السلطة الفلسطينية أمنياً، واحتفاظ هذه السلطة بدور ما زال قائماً على مستوى الادارة لِما يُعتبر من الدوائر المدنية فيها.
ليست المرة الاولى التي تتنازع المنظمات الفلسطينية فيما بينها، فقد استهدفت حركة «فتح» ومنظمة التحرير الفلسطينية تحديدا بمثل هذه الخضات الكبرى. ولعل أولى المواجهات هي التي حصلت عقب ما سُمّي «اتفاقية» أو «معاهدة أوسلو» التي وقعتها إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية في مدينة واشنطن الأميركية في 13 ايلول من العام 1993، برعاية الرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون وحضوره. واتخذت اسمها من العاصمة النروجية أوسلو التي كانت على مدى السنوات الثلاثة التي سبقت التوقيع التاريخي مسرحاً للقاءات ومفاوضات سرية بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي، وتم التوصل اليها تأسيساً على ما انتهى إليه «مؤتمر مدريد» الذي عقد بين 30 تشرين الاول والاول من تشرين الثاني عام 1991 برعاية مشتركة أميركية ـ روسية.
وإن عاد المراقبون الى تلك المرحلة لا بد أن يتذكّروا الوثيقة التي شكّلت عنواناً للتفاهم الذي وقّعه في 13 أيلول 1993 وزير الخارجية الاسرائيلي شيمون بيريز وياسر عرفات بصفته رئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، وسمّيت بـ»إعلان المبادئ حول ترتيبات الحكم الذاتي الانتقالي»، إيذاناً بولادة ما عُرف لاحقاً بـ»السلطة الوطنية الفلسطينية» التي نالت اعترافا دوليا لم يرق الى كونها «دولة مستقلة» إلا على المستوى العربي وبعض دول العالم التي أعلنت تأييدها حق الفلسطينيين بقيامها، ولم تكتمل مقوماتها حتى الامس القريب على رغم من التمثيل الديبلوماسي المتبادَل الذي لجأت إليه دول عدة في العالم، كما سمح بموجبها للسلطة بممثلين ـ مراقبين في منظمات الأمم المتحدة وأقيم المكتب التمثيلي للمنظمة في واشنطن من دون أن يرقى الى مرتبة سفارة قبل إقفاله في أيلول 2018 إبّان عهد الرئيس دونالد ترامب كعقاب نتيجة بعض الانتفاضات الفلسطينية في الداخل التي عدت رفضاً لِما حملته «صفقة القرن».
وعلى من الخطوات التي تلت التفاهم الفلسطيني – الإسرائيلي بمراحله الاولى، وصولا الى اعلان السلطة وانتقال رئيسها ياسر عرفات الى رام الله في الضفة الغربية من فلسطين المحتلة في 1 تموز 1994، بقيت هناك فصائل فلسطينية لم تعترف بما تم التفاهم عليه بموجب «اتفاقية أوسلو»، خصوصا لجهة الاعتراف الفلسطيني الذي ترجمه عرفات شخصيا للمرة الاولى بـ»إيقاف الأعمال المسلحة ضد إسرائيل ونبذ الإرهاب» مقابل العمل لتشكيل هذه السلطة التي حظيت بإدارة المناطق المُعترف بها في الضفة والقطاع، قبل ان تعود اسرائيل الى تجزئتها وتدمير بعض مقومات الدولة، ومنها تدمير مطار غزة ومنشآت أخرى كانت توحي بتوافر الحد الأدنى من الإدارة الذاتية للمناطق الفلسطينية. والتي سمحت للفلسطينيين بالعمل لاستدراج الدعم الدولي تحت شعار «الأرض مقابل السلام» على أساس خط العام 67 ومقدمة لقيام «مشروع الدولتين» على أراضي فلسطين.
كان واضحاً أن هذا النزاع لم ينته بعد، فهناك من الفصائل الفلسطينية من لا يزال يصرّ حتى اليوم على التنكر لاتفاقية اوسلو ويطالب السلطة بالعودة عنها والتنكر لكل ما قام على اساسها، بطريقة تؤدي إلى إلغاء «السلطة الفلسطينية» التي ولدت من رحمها ومَكّنت القيادة الفلسطينية من العودة الى أجزاء من أراضيها التاريخية المحتلة في الضفة وقطاع غزة.
ليس في ما سبق من الإشارة الى هذه المراحل التاريخية سوى الإضاءة على ما لا يزال مطروحا الى اليوم، فغياب بعض المنظمات الفلسطينية عن لقاء الأمناء العامين في «مدينة العلمين» أوحى بأنها كانت وراء انفجار الوضع في مخيم عين الحلوة، وان اتخذت المجموعات المسلحة التي تسببت بالإشكال الأول صفات مختلفة، وقد استندت الى أسباب قادت الى اغتيال احد المسؤولين الفلسطينيين «ابو قتادة» على أنه نتيجة عملية ثأر عشائرية سابقة، إلى أن ارتقت الى مستوى اغتيال قائد الأمن الوطني الفلسطيني لحركة «فتح» اللواء أبو أشرف العرموشي ومرافقيه الاربعة في مَكمن مسلح دبّر له أثناء تسليمه مطلوبين، أدّى الى تفجير واسع شملَ منذ يومين مختلف أحياء المخيم حيث تنتشر الفصائل المتناحرة مع حركة «فتح».
وبالإستناد الى ما سبق، تعترف مراجع فلسطينية عليمة ان ما جرى، وإن لم يكن ربطا بانعقاد مؤتمر الامناء العامين في مصر، فإنه يشكل رسالة واضحة الى من اجتمعوا هناك والى من رعى ما سُمّي «المصالحة الفلسطينية الشاملة»، وللاشارة الى ان مثل هذا الإنجاز لم يحن اوانه بعد وان الطريق اليه ليست معبّدة. ذلك أن هناك من يدير جزءا من الساحة الفلسطينية في غزة وبعض مُدن الضفة لم يُستشَر بما حصل ولا يحبذ التفاهم المستجد. وان دخلت المصادر في مزيد من التفاصيل فهي تضع العتب والرفض عند «محور الممانعة» الذي يسلط الضوء على ما تسمّيه «أخطاء وجرائم» السلطة الفلسطينية وإحياء مطالبتها التاريخية بالتراجع عن كل ما انتهت إليه «اتفاقية اوسلو» وما يمكن تسميته «التنسيق الأمني مع اسرائيل»، والذي أدّى في رأيهم الى اعتقال اجهزة السلطة في الضفة الغربية مَن سَمّتهم «ابطال انتفاضة جنين» الذين خاضوا المواجهة الاخيرة الشهر الماضي مع القوات الاسرائيلية.
وللدلالة الى هذا المنطق الاكثر واقعية فقد لفتت المصادر الى المطالب التي رفعتها بعض فصائل الداخل التي قاطعت مؤتمر «مدينة العلمين» قد ترجمت هذه الحصيلة، وفي مقدمها «حركة الجهاد الإسلامي» قبل الاشارة الى انّ «الجبهة الشعبية – القيادة العامة» و»منظمة «طلائع حرب التحرير الشعبية» (قوات الصاعقة). وهي بلا اي شك موضوعة على لائحة المدعومين من إيران، خصوصاً من ينتمي الى محور المقاومة عموماً. وعليه، فسرت أن أحداث عين الحلوة كانت رسالة واضحة وسريعة في اتجاه الرعاية المصرية والتفاهم مع تركيا. فجزء كبير مما وضع على جدول اعمال «مدينة العلمين» تمّ إنجازه في مفاوضات استضافَتها أنقرة برعاية مباشرة من القيادة التركية قبل أيام قليلة للغَرَض عينه.
المصدر: Al Joumhouria | الجمهورية