كتب طوني عطية في “نداء الوطن”:
منذ أن حلّ الفراغ في بعبدا، دخل السراي في متاهة الصلاحيات والإجراءات. وتحوّلت الحكومة من تصريف أعمال إلى التصرّف «على هواها» والشطح في استنسابيّتها. وإذا كان مجلس الوزراء قد تخطّى في اجتماعاته وبنوده الحدود المرسومة له، تحت ذريعة تسيير قضايا المواطنين الملحّة، فهل يعتبر وضع مدير عام وزارة الصناعة داني جدعون في التصرّف، بسبب خلافات مع وزير الصناعة جورج بوشيكيان، أمراً طارئاً يُهدّد مصلحة الدولة العليا وبالتالي لا يجوز تأجيله إلى حين انتظام العمل المؤسساتي والإداري؟ ألم يكن أجدى للحكومة الميقاتية أن تبتّ في مسألة حاكم مصرف لبنان رياض سلامة بتنحيته أو كفّ يده؟ أمّ أنّ التعامل مع المديرين وموظّفي الفئة الأولى يخضع لمعايير متناقضة و»جوائز ترضية» لهذا الوزير أو ذاك لقاء مشاركتهم في الجلسات الوزارية؟
في هذه القضية، أشارت مصادر وزارية إلى أنّ جدعون «تخطّى مراراً صلاحيات رئيسه، الوزير الحالي كما السابق»، وقالت إن بوشيكيان يمتلك في ملفّه العديد من التسجيلات والمراسلات التي توثّق مخالفات مدير عام الصناعة، وهو اشتكى من تجاوز المدير العام صلاحياته وهو يتصرّف وكأنّه هو الوزير وليس المدير العام. ولدى طرحها في الجلسة الأخيرة لمجلس الوزراء، حصل على تأييد معظم الوزراء بوجوب توقيف جدعون عن مهامه، وإحالته على الهيئة العليا للتأديب لحين البتّ بأمره من قبل الهيئة.
ويبدو بحسب المتابعين، أنّ الخلاف بين الوزير والمدير العام ليس جديداً، ويتمحور حول نفوذ كلّ منهما، لا سيّما في ما يتعلق بمنح الشهادات الصناعية، حيث يسعى كلّ منهما للتحكّم بها. وتفيد المعلومات أنّ وزير الصناعة عمل منذ فترة على إعداد ملف متكامل بما يعتبره مخالفات ارتكبها المدير العام وقد عرضها على العديد من القوى السياسية، لكي لا يواجه أي اعتراض في مجلس الوزراء، وهذا ما حصل.
وقد تبيّن أيضاً أنّ حرب تعاميم اشتعلت منذ فترة بين الوزير والمدير العام. إذ أصدر جدعون تعميماً منذ أيام قال فيه إنه «تنامى إلى المديرية العامة لوزارة الصناعة أخبار ومعلومات عن تقاضي رشى وبدلات مالية /أو عينية بشكل غير مسبوق مقابل الحصول على خدمات الوزارة، من قرارات تراخيص وشهادات وإجازات وإفادات مستوفية وغير مستوفية المتطلّبات القانونية والفنية والبيئية وتعاطٍ غير سويّ مع أصحاب العلاقة من المواطنين، وذلك من قبل أشخاص من داخل الوزارة وخارجها. ودعا جميع المتعاملين مع الوزارة وطالبي خدماتها، إلى إبلاغها عن أي عرقلة أو ابتزاز أو استغلال أو طلب رشوة مالية و/أو عينية أو سوء استعمال للسلطة والموقع مقابل الحصول على الخدمات».
وأكّد أنّ المديرية لن تتوانى عن اتخاذ كل الإجراءات الإدارية والقضائية المتاحة بحق كل من تثبت مسؤوليته عن المخالفات والفساد. واعتبر أن كلّ «معاملة تُحال من الوحدات المركزية والإقليمية خلافاً للأصول عليها قانوناً وكلّ تخطّ للتسلسل الإداري وأي تواصل مع السيّد الوزير أو مع أحد مساعديه أو مرافقيه أو أي كان من خارج الإدارة من دون علم المدير العام وإعطاء الإذن بذلك، وكلّ مخالفة للنصوص القانونية النافذة، تعرّض القائم بها للعقوبات التأديبيّة».
في المقابل، دعا الوزير بوشيكيان في تعميم صادر بتاريخ 26/5/2023 إلى إحالة طلبات الحالات الطارئة التي ترد إلى الوزارة، للبتّ بشأنها قبولاً أو رفضاً وذلك من قبله شخصيّاً. كما طالب من كافة موظّفي الوزارة عدم إصدار أي تعاميم وظيفيّة أو مذكّرات خدمة موجّهة لموظّفي وزارة الصناعة، إلا بعد موافقة الوزير خطّياً عليها، تحت طائلة ترتيب المسؤوليات المسلكية والجزائية والإدارية والمدنيّة بحقّ أي موظّف يخالف أحكام هذا التعميم».
القضية أثارت موجة اعتراضات «كاثوليكيّة» كبيرة، سياسية وروحيّة، على رأسها، بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للروم الملكيين الكاثوليك يوسف العبسي، ومجلس الأساقفة والرؤساء العامون والرئيسات العامات في لبنان، إذ طالبوا «رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي بإعادة النظر والتراجع الفوري عن قراره، كون الحكومة مستقيلة».
وانتقدوا «اتّخاذ مثل هذا القرار المجحف، الواجب التصحيح بحقّ أحد أبناء الطائفة المعروفة بأنها جسر عبور بين المكوّنات اللبنانية، من جهة، وهي واحدة من الطوائف الست الرئيسة، من جهة أخرى، والتي تحوّلت في وقت من الأوقات إلى طائفة منتقصة الحقوق، بفعل التسويات الحاصلة على حسابها منذ ما بعد اتفاق الطائف». ويخشون أنّ «يكون هناك قرار نافذ بإقصاء أبناء الطائفة عن مراكز القرار الإدارية والسياسية، بحيث نلاحظ فراغاً في العديد من المراكز الكاثوليكية على غرار مديرية الطرق والمباني في وزارة الأشغال ومديرية تلفزيون لبنان».
أمّا عضو تكتّل «الجمهوريّة القويّة» النّائب جورج عقيص، فأشار في حديث لـ»نداء الوطن» إلى أن «هذا التدبير من حيث الشرعية والملاءمة غير صحيح، وأنّ سلطة حكومة تصريف الأعمال لا تؤهّلها لاتخاذ قرار كهذا». كما اعتبر «أن الأصول الوظيفية لم تحترم» سائلاً: «هل تمّ الإستماع إلى إفادة وأقوال مدير عام الصّناعة؟ وإفساح المجال له للدّفاع عن نفسه؟».
وفي الإطار السياسي، رأى عقيص أن «التمادي والتطاول على موظّفي الطائفة خصوصاً في الفئات الأولى قد زاد عن حدّه. كأننا تحوّلنا إلى مكسر عصا». ولفت إلى أنّ الخطورة تكمن «في استبدال مواقعها بشخصيات وموظفين من غير طوائف»، مؤكّداً في المقابل، «أنّني لم أكن أظنّ يوماً أنّني سأتّخذ أيّ موقف طائفي، لكن الكيل قد طفح». وشدّد على أنّ «طائفة الرّوم الكاثوليك لا يمكن أن تكون حقل تجارب للتجاذبات والمناكفات السياسيّة. فإمّا أن نحترم النظام السياسي الحالي بمندرجاته كافّة، أو الذهاب إلى نظام يرتكز على معيار الكفاءة الوظيفية فقط». وشدّد «على أركان هذه الطّائفة المستضعفة أن ينتفضوا، وأنا مع أيّ قرار يتّخذونه دفاعاً عن كرامة أبنائهم. أكره الطّائفيّة، لكنّني أكره الظّلم أكثر».
كذلك استنكرت كتلة «تجدّد» التي تضمّ النواب: ميشال معوّض، أشرف ريفي، فؤاد مخزومي، وأديب عبد المسيح «ازدواجية حكومة تصريف الأعمال، التي وضعت المدير العام لوزارة الصناعة بالتصرّف بطريقة كيدية من دون انتظار قرار الهيئة العليا للتأديب لمجرّد خلافه مع وزير الصناعة، في حين ما زالت تتقاعس عن القيام بأي خطوة في قضية حاكم المصرف رياض سلامة، المدّعى عليه من قبل القضاءين الفرنسي والألماني، ما يشكّل سابقة خطيرة وتواطؤاً إضافياً في مسار إحباط المحاسبة والعدالة».
أما النائب الدكتور بلال الحشيمي فدعا إلى «عدم إعطاء» قرار وضع جدعون بالتصرّف «بعداً طائفياً، وترك الأمور تأخذ مجراها القانوني الطبيعي حتى تنجلي الحقائق بدلاً من إلباس الفساد ثوب الطائفية لتوريته والتستّر عليه».