اللبنانيون “محاصرون في منازلهم”.. التنقل بالسيارة رفاهية ليست في المتناول وللضرورة فقط !!
حالة من التخبط يعيشها اللبنانيون، فمن مشهد الطوابير أمام محطات المحروقات قبل أشهر، إلى عدم القدرة على تأمين حاجياتهم من البنزين والمازوت، هذه المرة ليس بسبب نفاد هاتين المادتين من السوق، بل لأن أسعارهما تلهب الجيوب.
سجل سعر صفيحة البنزين عيار 95 أوكتان في لبنان، 634 ألف ليرة، أي ما يقارب الحد الأدنى للأجور البالغ 675 ألف ليرة، أما صفيحة المازوت، التي يعتمد عليها سائقو الحافلات، فوصل سعرها إلى 785 ألف ليرة، هذه الأسعار غير المسبوقة، جعلت غالبية اللبنانيين عاجزين عن تحمل كلفة التنقل، سواء بسياراتهم الخاصة أو حتى بسيارات الأجرة، في ظل غياب شبكات النقل المشترك.
فرض الواقع على اللبنانيين تخفيض استهلاكهم للبنزين، وبحسب ما أشارت “الدولية للمعلومات” وصل متوسط الإستهلاك اليومي في العام 2021 إلى 328 ألف صفحة يومياً، وانخفض في العام 2022 إلى 281 صحيفة يوميا، أي بتراجع مقداره 47 ألف صفيحة ونسبته 14.3 في المئة.
وتوقعت “الدولية للمعلومات” مزيدا من التراجع في الاستهلاك في حال ارتفاع الأسعار عالمياً، أو نتيجة رفع الدعم كلياً عن البنزين أو ارتفاع سعر صرف الدولار، وهو ما ينتظر اللبنانيين في الأيام القادمة، حيث أعلن عضو نقابة أصحاب محطات المحروقات الدكتور جورج البراكس يوم الاثنين الماضي أن “مصرف لبنان يواظب على إكمال مسيرته نحو رفع الدعم غير المباشر عن استيراد البنزين بتأمينه جزءاً من هذه الفاتورة وفقا لمنصة صيرفة، على أن تؤمن الشركات المستوردة الجزء المتبقي من أسواق الصرافة الحرة”.
وشرح في بيان “كانت المعادلة حتى الآن %40 صيرفة و%60 غير مدعوم، ولكن المركزي خفض في جدول تركيب أسعار المحروقات الصادر يوم الاثنين نسبة صيرفة من 40 إلى 20 في المئة وارتفعت بذلك نسبة غير المدعوم إلى 80 في المئة”، مشددا “من الواضح أن مصرف لبنان لم يتبق له إلا مرحلة أخيرة للتوقف بعدها نهائيا عن تأمين الدولار من خلال منصة صيرفة ليصل إلى معادلة صفر صيرفة و%100 سوق حرة غير مدعوم”.
حصار من نوع آخر
تعبئة صفيحة كاملة من البنزين أمر بات مستحيلا كما تقول غلاديس، وتشرح “يجبرني وضعي الاقتصادي على التزود بنصف صفيحة شهريا، كون راتبي بالليرة اللبنانية وبالكاد يكفي بدل إيجار المنزل وفاتورة المولد، من هنا لم أعد أستخدم سيارتي سوى في محيط سكني، يساعدني على ذلك أنه بإمكاني إنجاز عملي من دون الحاجة للذهاب إلى المكتب”.
حتى الخروج بالسيارة لشراء الحاجيات أصبح يتطلب كما تشدد غلاديس، عملية حسابية للمسافة التي ستقطعها وتكلفتها، محاولة كل ما في وسعها اختصار الأماكن التي ستقصدها، كشراء الخبز واللحوم من السوبر ماركت بدلاً من التوجه إلى الفرن والملحمة، حتى الدعوات إلى مناطق بعيدة من قبل الأقارب والأصدقاء مجبرة على رفضها، كون الأمر بات مكلفا، وتشدد “أشعر أني محاصرة في منزلي، فالمبلغ المالي الذي سأدفعه على المحروقات، يمكّنني من شراء طعام يكفي لعدة أيام، أو دواء لوالدتي”.
وفيما يتعلق بالانتقال بسيارة أجرة، تقول لموقع “الحرة” “هو أمر غير وارد على الإطلاق بالنسبة لي، كونه مكلف أكثر من السيارة الخاصة، ولو أني أستطيع المشي من دون أن يتسبب ذلك بآلام في ظهري، لفضلت هذا الخيار على كل ما عداه”، وتضيف “إذا كنت أتحكم بتنقلاتي، وبمصروف المحروقات الشهري، إلا أنه ما لا يمكنني التحكم به هو عدم تعطل سيارتي، وهنا الطامة الكبرى، كون جميع قطع الغيار بالدولار الأميركي”.
يعتبر الباحث في “الدولية للمعلومات”، محمد شمس الدين، أن تراجع استهلاك البنزين أمر طبيعي في ظل ارتفاع سعره بشكل خيالي، من 46 ألف ليرة، إلى 126 ألف ليرة العام الماضي، واليوم إلى ما يقارب الـ700,000 ليرة، لافتا في حديث لموقع “الحرة” إلى أن “عدم توجه الموظفين إلى أعمالهم ساهم في تراجع استهلاك المحروقات، إضافة إلى تخفيض غالبية اللبنانيين لعدد زياراتهم إلى بلداتهم، من مرة في الأسبوع إلى مرة شهرياً”.
لم تواز نسبة ارتفاع مداخيل اللبنانيين، نسبة ارتفاع أسعار البنزين، ويقول شمس الدين “ارتفعت كلفة التنقل بالسيارات الخاصة، فأصبحت كلفة الكيلومتر الواحد حوالي 5000 ليرة لبنانية لسيارة متوسط استهلاكها 170 كلم/ 20 ليتر بنزين، فإذا قرر أحد المواطنين التوجه من بيروت إلى بعلبك أو إلى الجنوب أو عكار، فإن ذلك سيكلفه حوالي المليون ليرة بالحد الأدنى، أي ما يقارب ربع دخله الشهري، وذلك بين بنزين وفرامل وصيانة سيارة وعجلات وغيرها”.
كما أن خيار التنقل بوسيلة نقل عمومية، ليس أفضل حالا، فارتفاع سعر المحروقات دفع السائقين إلى زيادة التعرفة على الركاب، من ألفي ليرة داخل بيروت إلى خمسين ألف ليرة، ما يعني أن على اللبناني تكبد مليوني ليرة شهريا إذا قرر التوجه إلى عمله والعودة لمنزله في سيارة أجرة.
ارتفاع تعرفة النقل انعكس سلبا، على سائقي سيارات الأجرة، حيث تراجع عملهم بشكل كبير، بحسب ما يؤكد منير، الذي يعمل في هذه المهنة منذ سنوات، ويشرح “رغم كل المعاناة التي يعيشها السائقون، من تحمل حرارة الصيف وبرودة الشتاء وهم على الطرق يبحثون عن زبون، إلا أن ذلك سهل أمام ما نعانيه بسبب الأزمة الاقتصادية”.
منذ الصباح حتى ساعات ما بعد الظهر تقاضى منير كما يقول لموقع “الحرة” “370 ألف ليرة من زبائنه، فيما دفعت 220 ألف ليرة ثمن البنزين، أي أن ربحي الصافي 150 ألف ليرة، فلو افترضنا أنني سأنهي اليوم بربح مقداره 200 ألف ليرة، يعني مدخولي الشهري 6 ملايين ليرة، كيف لهذا المبلغ أن يكفي عائلة مؤلفة من أربعة أولاد، من طلاب مدارس وجامعات، عدا عن فاتورة مولد الكهرباء، وما نحتاجه من طعام وشراب وحاجيات”.
يقتصر منير عمله ضمن بيروت، وهو يأخذ بدلا عن كل راكب 50 ألف ليرة، إلا أنها بالكاد تؤمن له ربحا قليلا، في ظل تراجع أعداد الركاب، حيث يضطر إلى الانتقال من منطقة إلى أخرى براكب واحد فقط، ويبقى الهاجس الأكبر كما يشدد أن “تصاب السيارة بعطل، فيتوقف عملي وأتكلف مبالغ باهظة لإصلاحها”.
كما أن ارتفاع سعر صفيحة البنزين انعكس سلبا على شركات “التاكسي”، وهو ما أكده الرئيس التنفيذي لـ “مجموعة شارلي”، شارل أبو حرب، حيث قال “نسبة تأثرنا بهذا الارتفاع تفوق الـ 75 في المئة”، وفيما إن كان يخشى من رفع الدعم الكلي على البنزين وبالتالي رفع سعره وتراجع عمله بشكل أكبر، أجاب في حديث لموقع “الحرة”، “أي ارتفاع في سعر صفيحة البنزين سينعكس على التعرفة، أي أن المواطن هو من سيدفع الثمن، وبالتالي سيتراجع عملنا أكثر فأكثر”.
وبسؤاله عن التعرفة أجاب حرب خلال حديث مع موقع “الحرة” “تتبع سعر صرف الدولار، ففي السابق كانت أدنى تعرفة ضمن بيروت عشرة آلاف ليرة، أما اليوم فأدناها 100 ألف ليرة”.
ظواهر غير مألوفة
وصل سعر صفيحة البنزين عيار 95 أوكتان في يونيو الماضي إلى 691 ألف ليرة، بينما سجل في العام الذي سبقه 43,500 ليرة أي بارتفاع مقداره 647,500 ليرة ونسبة 1,488 في المئة أي 16 ضعفاً خلال سنة، وذلك بحسب “الدولية للمعلومات” التي ردت ذلك حينها إلى أسباب أساسية، وهي “ارتفاع سعر برميل النفط عالمياً. وقف دعم البنزين الذي كان يوفره مصرف لبنان. زيادة حصة المحطات وشركات النقل والتوزيع من 5,540 ليرة عن كل صفيحة إلى 28,500 ليرة. زيادة قيمة الضريبة على القيمة المضافة التي تتقاضها الدولة ونسبتها 11% من 4,310 ليرات إلى 67 ألف ليرة من كل صفيحة بنزين”.
مع ارتفاع أسعار المحروقات انتشرت ظاهرة غريبة على المجتمع اللبناني، وهي “التوك توك”، الذي غزى مناطق عدة، لا سيما في البقاع وشمالي البلاد، فبعد أن كان اللبنانيون يشاهدونه عبر الشاشات، أصبح واقعاً يعيشونه ويتنقلون عبره، كون تعرفته أقل من تعرفة السيارات العمومية.
في البداية تعامل اللبنانيون مع “التوك توك” كأمر ترفيهي، كما يقول أحمد حسون الذي يمتلك عدداً من هذه المركبات، وفي حديث لموقع “الحرة” شرح “من اللبنانيين من كان يخجل من ركوبه، ومنهم من كان يستقله من باب التسلية، لكن مع ارتفاع بدلات النقل، لم يجد اللبناني أمامه خياراً غيره كبديل عن سيارات الأجرة، ورويداً رويداً فرضت هذه المركبة نفسها في حياة المواطنين، واتسعت دائرة الذين يعتمدون عليها في تنقلاتهم، حتى وصلت إلى طلاب المدارس والموظفين، وأصبح لدينا زبائن دائمين”.
يتجول موظفو حسون على الطرق لإيصال الزبائن إلى حيث يشاؤون، ويقول “أحاول قدر المستطاع أن تراعي التعرفة التي أحددها قدرات الناس في ظل الوضع الاقتصادي الصعب، الذي يفرض علينا التكاتف ومساعدة بعضنا البعض إلى حين الخروج من الآتون المظلم الذي تمر به البلاد”، ويلفت إلى أن أدنى تعرفة للتنقل عبر الـ”التوك توك” هي 15 الف ليرة.
كما يشدد على مراعاته كافة معايير السلامة العامة، لا سيما وأن “التوك توك” لا يعدو كونه دراجة نارية بثلاث عجلات، وعلى هذا الأساس يتم تسجيله في مصلحة تسجيل السيارات في لبنان”، كما أكد كذلك أن اللبناني بات يرغب التنقل عبر المركبات التابعة لشركته كونها وموظفيه أصبحا معروفين، خشية من أن يتعرض في السيارات العمومية لأي عملية تشليح.
وبعد “التوك توك” بدأت تنتشر ظاهرة تحويل الدراجات النارية إلى “تاكسي”، وهي تشهد رواجاً يوماً بعد يوم.
هادي، واحد من الشبان الذين قرروا مواجهة الظروف الاقتصادية الصعبة من خلال دراجته النارية، كونه يرفض العمل لدى أشخاص يتحكّمون به، بحسب قوله، ويضيف “دخلت في هذا المجال قبل حوالي الثلاث سنوات من باب التجربة، وعندما لمست الطلب على التنقل عبر الدراجة النارية أكملت في هذا المشروع، حتى أصبح باب رزقي الذي أتكل عليه”.
كرّس هادي دراجته النارية كـ “تاكسي” ودليفري في آن واحد، ومع تقلب أسعار المحروقات، يجد صعوبة في تحديد تعرفة ثابتة، ويشرح في حديث لموقع “الحرة” أنه “في السابق كنت أتقاضى ألفي ليرة بدل نقل الراكب داخل مدينة صور جنوب لبنان وكنت أجني ربحاً مقبولاً، أما اليوم ورغم أني أتقاضى 20 ألف ليرة إلا أنني أتكبد خسائر”.
يحاول الوالد لطفل فعل كل ما في وسعه من أجل تأمين قوت عائلته، ويقول “المدخول قليل جداً في بلد المعيشة فيه من أغلى دول العالم، وفوق هذا، يومياً تظهر أزمة جديدة، من دون أن نسمع عن محاولات لإيجاد حلول من قبل المسؤولين لهذا الوضع الضاغط الذي لم يعد يحتمل”.