مراوحة غامضة حيال الاستحقاق الرئاسي
تغلب المراوحة على الحياة السياسية اللبنانية على رغم اقتراب بدء سريان المهلة الدستورية لانتخاب رئيس جديد للجمهورية، ولهذه المراوحة أسبابها الداخلية كما الخارجية.
فعلى المستوى الداخلي ما تزال الصورة ضبابية حيال اتّضاح اتجاهات تصويت الكتل النيابية الوازنة، ذلك انّ اقوى المطروحين للانتخابات الرئاسية وهو سليمان فرنجية ما تزال حظوظه غير مكتملة وسط إشارات التصلّب التي يرسلها رئيس «التيار الوطني الحر» النائب جبران باسيل حيال إعلانه دعم فرنجية. وعلى الرغم من التعويل على المواقف الاخيرة لرئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط ووضعها في اطار الانعطافة الحادة التي يمكن ان تؤدي الى تعديل في موقفه حول الانتخابات الرئاسية، الا أن أي مُعطى جدي لم يظهر في هذا الاتجاه حتى الآن. وبالتالي، يبدو فرنجية مُلزماً بتفكيك ثلاث عقد اساسية قبل بدء شهر ايلول:
– العقدة الاولى التي تتعلق بموقف جنبلاط، والتي من المفترض ان يعمل على حلها رئيس المجلس النيابي نبيه بري الذي يحتفظ بعلاقة ممتازة ومميزة مع زعيم المختارة. ولا بد من الاشارة هنا الى أن جنبلاط لم يطلب لقاء الامين العام لـ»حزب الله» السيد حسن نصرالله ولا يبدو انّ السيد نصرالله في وارد هذا اللقاء، ما يعني أن الكلام عن انعطافة في العمق لجنبلاط مُبالَغ فيه وقد يكون التفسير الادق تعديل في الخطاب.
– العقدة الثانية وتتعلق بباسيل، وسط وجود توجّه لاستثمار عامل الوقت بهدف تليين موقفه فتعديله. ويعتقد اصحاب هذا التوجه انّ التفاوض مع باسيل الآن شيء وترك هذه المهمة الى حين بدء العد العكسي، اي مع مطلع شهر ايلول، شيء آخر، اذ يمكن عندها ان يلعب عامل الوقت لمصلحة خفض سقف باسيل الشاهق.
– العقدة الثالثة والمتمثّلة بالطرح المُستجد لرئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع بالتوجّه الى تعطيل النصاب من خلال عدم تأمين حضور ثلثي النواب.
صحيح انّ الحوار القائم بين الكتل النيابية المعارضة والتغييرية والمستقلة أظهَر وجود ما يشبه برج بابل، وبالتالي الاستنتاج مسبقاً بوجود صعوبات كثيرة حيال الاتفاق على اسم مرشح واحد يمكن التوحّد خلفه لخوض الانتخابات الرئاسية، الّا أن مبدأ مقاطعة الانتخابات من خلال عدم تأمين نصاب الثلثين بدأ يأخذ حيّزاً واسعاً من التفهّم في حال بَدا ان حظوظ فرنجية اقتربت من الاكتمال.
ويعتقد مناصرو فرنجية أنّ حل عقدة «القوات» ممكن من خلال السعودية القادرة على تعديل موقف «القوات اللبنانية». لكن الاجواء الخارجية لا تبدو بدورها واضحة، ما يُضاعف من حال الغموض وبالتالي المراوحة الداخلية حيال الاستحقاق الرئاسي.
فهناك محطتان اساسيتان ينتظرهما لبنان بكثير من الترقب. المحطة الاولى تتعلق بملف الترسيم البحري مع انتظار عودة المفاوض الاميركي عاموس هوكشتاين الى لبنان وحتى الآن ما تزال الاجواء ايجابية لدى المسؤولين اللبنانيين. والعقدة، في رأيهم، لم تعد تقنية، فلقد تم التفاهم حول العناوين الاساسية مع المفاوض الاميركي لكنّ العقدة اصبحت تتركّز حول التوقيت، مع وجود مَيل اسرائيلي الى تأجيل الاتفاق الى ما بعد إجراء الانتخابات الاسرائيلية وهو ما رفضه بوضوح الامين العام لـ»حزب الله» الذي ألزم نفسه بموعد زمني لن يكون قادراً على تجاوزه.
صحيح انّ انتهاء الجولة العسكرية التي شنّها الجيش الاسرائيلي على حركة «الجهاد الاسلامي» في غزة، والتي انتهت سريعاً، اظهرت انّ ظروف الحرب غير مؤمنة ابداً، وهو ما جعل حركة «الجهاد الاسلامي» وحيدة في ميدان القتال، وفي المقابل ألزم الجيش الاسرائيلي بإنهاء الجولة العسكرية خلال ثلاثة ايام فقط، الا انّ ما ورد في احدى وسائل الاعلام الاسرائيلية من أن منظمة «الجهاد الاسلامي» كانت تستعد لإطلاق مسيرة انتحارية في اتجاه احدى منصات استخراج الغاز الاسرائيلية، إنما يطرح مجموعة اسئلة، منها ما هو متعلق بتهديد «حزب الله»، ومنها ما هو متعلق بتحضير الشارع الاسرائيلي امام ضرورة تنفيذ الاتفاق مع لبنان لتجنّب الاسوأ.
ولا شك في أن الذهاب الى توقيع اتفاق على استخراج الغاز سيؤدي الى اجواء اقليمية مساعدة للبدء بفتح ملف الاستحقاق الرئاسي، ولكنه يبقى خطوة اولى على طريق خطوات اخرى لا بد من حصولها. والمقصود هنا مصير الاتفاق النووي الايراني، والذي سينعكس مصيره على الواقع اللبناني والاستحقاق الرئاسي المنتظر.
وبَدا انّ التفاؤل الذي أبدَته اوروبا حيال الجولة الاخيرة من المحادثات تراجَع بعض الشيء او اصبح اكثر حذراً بعد الاشارات الباردة الصادرة عن ايران.
ونقلت الصحافة الاسرائيلية عن مسؤولين اسرائيليين اعتقادهم أن احتمالات توقيع الصيغة النهائية التي اقترحتها اوروبا ضعيفة. ووفق ما نقلته صحافة اسرائيل فإن ايران لن تعلن رفضها الفوري، بل ستعمل لطرح مزيد من النقاط والملاحظات، وبالتالي استنفاد الوقت بالنقاشات.
في الواقع ثمة ما يدعو الى الحذر في هذا الاطار، فواشنطن تعيش ازمة داخلية حادة بين ادارة بايدن والرئيس السابق دونالد ترامب وسط ازمات خارجية متعددة وكبيرة، ما يعني تراجع التركيز على الملف النووي.
في هذا الوقت تعمل ايران على تمتين علاقتها بروسيا والتي تأخذ في بعض جوانبها تنسيقاً عسكرياً. فعلى سبيل المثال أطلقت روسيا قمراً صناعياً ايرانياً من كازاخستان اسمه «الخيام»، كان مزوّداً بكاميرات تتمتع بدقة عالية من شأنها أن تمنح طهران قدرات جديدة لمراقبة المنشآت الحساسة في اسرائيل ودول الخليج على حد سواء.
في المقابل، إن روسيا التي عزّزت علاقتها بإيران إثر الزيارة التي قام بها الرئيس فلاديمير بوتين لطهران منذ نحو ثلاثة اسابيع، إنما تنظر الى ايران كمصدر للاستفادة من خبراتها للتكيف مع العقوبات الاميركية المفروضة على موسكو، وبالتالي تريد اخذ الدروس الايرانية في طريقة التحايل على العقوبات المصرفية والنفطية وصولاً الى صيانة الطائرات…
كما ان ايران ستزوّد روسيا أعداداً كبيرة من الطائرات المسيّرة، حيث نقلت شبكة «سي. إن. إن» الاميركية عن مسؤول اميركي ان مستشار الامن القومي الاميركي جيك سوليغان اكد أن عناصر روسية أجرَت تدريبات على طريقة استخدام هذه المسيّرات في ايران، وانّ وفداً روسيّاً زار مطاراً وسط ايران مرتين منذ حزيران الماضي لمعاينة هذه المسيّرات. كل هذه التحديات تُرخي بثقلها على التحضيرات المفترضة للاستحقاق الرئاسي اللبناني وترفع مستوى الغموض، ما يجعل المراوحة سيدة الموقف. مع العلم أنّ السفير البابوي، وخلال زيارته للرابطة المارونية بالأمس، قال إنّ الدول الخارجية تعمل بأقصى قوّتها كي يحصل الاستحقاق الرئاسي ضمن مواعيده الدستورية.