معارك صغيرة على أبواب الاستحقاقات الكبرى
ليس هناك أتفه من ان ينشغل اللبنانيون بحروبهم الصغيرة التي زادت من حجم الشروخ بين أهل الحكم والحكومة. فقد بلغت القطيعة بين رئيس الجمهورية ميشال عون ورئيس الحكومة نجيب ميقاتي، بصفتيه المكلّف بتشكيل الحكومة وإدارة تصريف الأعمال ما لا يتصوره احد. ولا يلتقي رئيس الجمهورية ورئيس مجلس النواب نبيه بري الّا عندما يستدعي الواجب. وعليه، ما الذي يعنيه هذا الواقع، فيما لبنان والمنطقة على ابواب استحقاقات كبرى.
ليس سهلاً على أي من المراقبين للوضع في لبنان تقديم أي توصيف لما تعيشه الدولة اللبنانية في ظلّ الشلل الذي أصاب مؤسساتها الدستورية والسياسية والادارية والخدماتية، عدا عمّا اصاب سلطاتها المختلفة من وهن، إلى درجة لم يعد أحد ينتظر منها شيئاً. فأبسط الخدمات الحياتية الحيوية واليومية بات مفقوداً، وإن وجد فبكلفة تتجاوز قدرة أكثرية اللبنانيين على تحمّلها.
فالانهيار المالي والنقدي انعكس على مختلف وجوه حياة اللبنانيين. وفي موازاة صفر إنتاج من الطاقة الكهربائية وغلاء المازوت، انعكس على تزويد اللبنانيين بالمياه، وافسح المجال أمام نشوء قطاع جديد من أصحاب المولدات، يُمسك برقاب اللبنانيين، وأقفلت معظم الوزارات والمؤسسات العامة وتراجعت الخدمات التربوية والطبية والاستشفائية إلى الحدود الدنيا، وباتت من حصة نسبة قليلة من اللبنانيين، وشُلّ القضاء إلى درجة غير مسبوقة، بعدما عصفت به المناكفات السياسية وحولت مواقعه متاريس متبادلة، ولم ينجُ من هذا الواقع المذري سوى المؤسسات العسكرية والأمنية، والتي على رغم مما تعانيه، فقد تمكنت من الاحتفاظ بالحدّ الأدنى من قدراتها التي تضمن بقاءها خشبة الخلاص الوحيدة لتأمين ما هو مطلوب من أمن واستقرار في البلاد وفي مواجهة العصابات المنظّمة ومن يتربص بأمن اللبنانيين افراداً وجماعات.
وامام هذه الصورة السوداوية التي لا يمكن لأحد ان يغيّر في أي من مظاهرها، او ان يقدّم صورة مختلفة، ما زال بعض المسؤولين يطلق من موقعه، المواقف بما تحمله من «نصائح سفسطائية»، لتجاوز مجموعة الأزمات التي تعصف بالبلاد والعباد، فيما لا يزال منغمساً في حروبه الصغيرة، متجاهلاً ما هو مطلوب من اصلاحات واجراءات تتناول مختلف القطاعات الحيوية لاستعادة ابسط مقومات العيش المتوافرة في أفقر دول العالم، ليتسنى لها مواجهة ما تشهده المنطقة من استحقاقات باتت تلقي بثقلها على حياة اللبنانيين.
وعليه، تعترف مراجع سياسية وديبلوماسية، انّ لبنان الذي أضاع كثيراً من الفرص الذهبية في مراحل سابقة، لم يتنبّه المسؤولون فيه إلى ما يجري من حولنا. وبدلاً من السعي إلى تجنّب ما يعكس التطورات التي ستغيّر وجه المنطقة والعالم على الساحة الداخلية، راح البعض بعيداً في استجرار التدخّلات الدولية والاقليمية، بغية تسجيل انتصارات وهمية في الداخل، إلى ان عاد لبنان ساحة مفتوحة ومباحة لكل هذه القوى التي كانت تتنازع على ساحات المنطقة وتتحاشى ما يمسّ الوضع الهش في لبنان. ولذلك، سرعان ما اختل التوازن الداخلي وأُلحقت الساحة اللبنانية بكل الساحات المتفجّرة من العراق وسوريا كما اليمن وصولاً إلى انعكاسات ما يجري على مستوى أزمة الملف النووي الايراني والمفاوضات السعودية ـ الايرانية قبل الغزو الروسي لاوكرانيا، وبعده، إلى ان تحكمت تردداتها بيوميات اللبنانيين بما لها من انعكاسات خطيرة أفقدتهم القدرة على الصمود والمواجهة.
وانطلاقاً من هذه المعايير والمؤشرات التي لم تعد خافية على احد، وباتت على كل شفة ولسان، ثمة من لا يزال ينصب الأفخاخ والمكائد، بمعزل عن معرفته بمخاطر ما بلغته التطورات على اكثر من مستوى وصعيد من ملامح ازمات مدبّرة، قد تصل إلى مرحلة يفتقد فيها من يعتقد انّه مسؤول، القدرة على إدارة البلاد والعباد من دون ان يغيّر قيد أنملة من مخططاته وامانيه الخاصة على حساب المصلحة العامة، وهو ما يزيد من حجم المآسي المقدّرة التي أفقدت المراقبين تحسّب ما هو آتٍ من استحقاقات داهمة.
وبعد الاعتراف بهذه الحقائق التي لم تعد تخضع لأي نقاش، هناك من لا يزال يبني خياراته على ما يمكن ان يؤدي إلى بقائه في موقعه او يضمن من سيخلفه في هذا الموقع، من دون التفكير ولو للحظة بما سيورثه السلف الى الخلف في أي موقع كان. فالحديث عن تشكيل حكومة جديدة بكل مواصفاتها الدستورية طُوي إلى غير رجعة، في ظل اقتناع شامل، لا يحق لأي ممن كان لهم رأي في تشكيلها ان يلقي اللوم على آخر. فكل ما كان يريده أصحاب القرار قد تحقق. ولا يبدو انّ الرئيس المكلّف كان يريد تشكيل حكومة جديدة، وليس هناك من هو مقتنع بأنّ رئيس الجمهورية يريد حكومة، توفّر له ولفريقه القريب والمحيط به ما في حكومة تصريف الاعمال من تركيبة تضمن الحدّ الأدنى من حاجات المرحلة التي اقتربت من نهايتها المحتومة في 31 تشرين الأول المقبل.
وإلى هذا الستاتيكو القائم بين قصر بعبدا والسرايا الحكومية، لا يمكن لأحد ان يعفي عين التينة والضاحية من مسؤولياتهم في مواجهة المرحلة. وفي الوقت الذي وضع «حزب الله» مقدراته في مواجهة اسرائيل على خلفية ملف ترسيم الحدود واستخراج النفط من الحقول «الفلسطينية المحتلة»، ما زال يتجاهل عدم قدرة لبنان على تحمّل أي ردّ فعل يمكن ان يؤدي اليه اي تفجير أمني مهما كان حجمه، ولو بقي في حدود عملية غزة الاخيرة. وعلى الرغم من ذلك لم يقدّم أي طرف من الثنائي الشيعي على أي مبادرة من اجل كسر الجمود القائم كما فعل سابقاً في أكثر من محطة مشابهة، تاركاً الأمور على غاربها لما قد يشكّله هذا الوضع من تجميد لكثير من الملفات القضائية والادارية المعلقة لأكثر من هدف وسبب ومن بينها التحقيق في تفجير مرفأ بيروت، وقضايا مختلفة في أكثر من مؤسسة وادارة وقطاع لا مجال لذكرها جميعها.
وبناءً على ما تقدّم، تعتقد المراجع السياسية والديبلوماسية، انّ الوضع على ما هو عليه لن يدوم طويلً،ا وقد تتجّه الامور في وقت قريب نحو ما هو أصعب بكثير، وخصوصاً ان بقيت المناكفات على ما هي عليه. فالعالم منشغل بقضايا دولية وإقليمية تتجاوز خطورتها وأهميتها ما يعانيه اللبنانيون في الداخل. حتى انّ المبادرة الفرنسية التي حظيت بغطاء عربي وخليجي وبضوء اخضر اميركي وروسي باتت على الرف، وانّ عودة الخليجيين إلى بيروت انحصرت بمجموعة من المبادرات الصغيرة الاجتماعية والإنسانية، للتخفيف من آلام فئات محدّدة من المجتمع اللبناني، ولم يلامسوا بعد الملفات السياسية، في مرحلة اقتربت فيها البلاد من استحقاق انتخاب الرئيس العتيد للجمهورية، وسط حديث لم يعد سرياً عن احتمال تأجيل هذا الاستحقاق إلى ما بعد نهاية الولاية الحالية ولو بأيام، في ترجمة واضحة لما بلغته الكيدية السياسية بين اهل الحكم والحكومة، إلى درجة استنفر فيها الجميع لمجرد ان ألقى وزير الخارجية عبد الله بو حبيب ضوءاً على أحد اسباب ما يعوق عودة النازحين السوريين إلى بلادهم.