عند تغيير الدول إحفظ رأسك
جاء في الجمهورية
في مصالح الدول هامش المصادفة يبقى ضيّقاً إلى حدّ بعيد، لكن في المفاوضات وإنجاز التسويات فإنّ هامش المصادفة يصبح معدوماً. ومناسبة هذا الكلام، التزامن المدهش الحاصل في تطور العلاقات بين واشنطن وطهران، من خلال المفاوضات حول الملف النووي، وايضاً إعادة تركيز العلاقات الاميركية ـ الخليجية عموماً والسعودية خصوصاً، على أسس جديدة في الشرق الاوسط، يصح اعتبارها بداية حقبة جديدة.
لم يكن تفصيلاً وضع الملف النووي جانباً مع شروع الإدارة الاميركية في إعادة صياغة استراتيجية جديدة لعلاقاتها مع دول الخليج، تحاكي عقيدة سياسية جديدة تقوم على استبدال اولوية مواجهة اسرائيل بأولوية مواجهة ايران واحتواء تمدّد نفوذها، وبمساعدة مباشرة من اسرائيل نفسها.
ولم تكن مصادفة ابداً استعادة التواصل الاميركي ـ الايراني غير المباشر حول الملف النووي، قبيل حصول زيارة الرئيس الاميركي جو بايدن الى اسرائيل والسعودية، للإعلان عن الصيغة الجديدة لمعادلة المنطقة والتفاهمات الموجبة التي تمّ صوغها في كواليس المفاوضات خلال الاشهر الماضية.
في اختصار، تتهيأ المنطقة للدخول في مرحلة جديدة ترتكز على أساس تحديث العلاقة مع محور «الحلفاء»، والمقصود هنا المحور الاسرائيلي ـ الخليجي، والتفاهم على ضوابط ملزمة لمحور «الأعداء»، والمقصود هنا محور ايران وحلفائها، بحيث يكون النفوذ الايراني مضبوطاً وتحت الرقابة الصارمة.
أضف إلى ذلك، انّ ادارة بايدن التي تجمع كثيراً من الخبراء والمحترفين، عملت على الاستفادة جيداً من النقاط في ورقة التفاهم مع السعودية والخليج خلال وضعها لورقة الاتفاق النووي جانباً، وهي في المقابل تعمل على تعزيز موقعها وتحسين شروطها، مع إعادة الحياة الى ورقة التفاوض مع ايران، قبل وصول طائرة بايدن الى السعودية. وثمة توازن «تفاوضي» أرادته إدارة بايدن بين ملفي الخليج وايران، ولو مع فارق التعاطي مع كلا الزاويتين. لكن النظر إلى ما يحصل من منظار ضيّق ومحدود هو خطأ قاتل. فلا بدّ من النظر إلى هذه التطورات على انّها ستطبع مسار العقود المقبلة. وفي نظرة سريعة يمكن القول، إنّ المسرح أصبح جاهزاً لإنجاز التسويات المطلوبة. لكن ثمة نقاط ضعف موجودة لدى كلا الجانبين. صحيح انّ الدعاية ستنطلق لإبراز الواقع المالي والمعيشي والاقتصادي المزدهر للمحور الخليجي ـ الاسرائيلي، في مقابل واقع صعب إلى حدّ البؤس للدول الواقعة في المحور الايراني، الّا أنّ هنالك تساؤلات حول صمود كل محور وفق صيغته الحالية إلى أمدٍ طويل.
وعلى سبيل المثال، هنالك في الائتلاف الدولي الخليجي ـ العربي من يريد الذهاب بعيداً في مواجهة ايران، في مقابل دول مثل سلطنة عمان المحايدة نسبياً والعراق الذي يختزن نفوذاً كبيراً لإيران، لا تستطيع الذهاب أبعد مما هي عليه اليوم.
أضف الى ذلك، انّ هنالك دولاً اخرى مثل قطر والامارات، تتمتع بعلاقات اقتصادية جيدة مع ايران، وهو ما يرسم علامات استفهام حول تجانس هذا التحالف على المدى الطويل، على الرغم من رهان البعض، بأنّ شبكة الدفاع الجوي الاقليمي التي تبنيها اسرائيل تحت الرعاية الاميركية، ستتكفل لاحقاً وتحت تأثير الأحداث في تضييق هامش التمايز داخل هذا المحور.
في المقابل، فإنّ لمحور ايران نقاط ضعفه التي سيعمل عليها المحور المقابل. إحدى ابرز نقاط الضعف تبقى القدرات الاقتصادية والواقع الاجتماعي والمعيشي في ساحات مزّقتها النزاعات والحروب ودمّرت مؤسساتها وجعلت منها دولاً فاشلة. وبالتالي، هل يمكن الاستمرار في الإمساك بمساحة النفوذ الايراني من خلال الصيغة نفسها، أي عبر التنظيمات الرديفة ووفق الشعارات نفسها، من دون تصاعد حالات الاعتراض من المجتمعات والبيئات المختلفة؟
الأرجح انّ طهران ستمسك أكثر بالورقة الفلسطينية، خصوصاً مع التجاوز الحاصل عمداً للقضية الفلسطينية. فليس تفصيلاً ابداً ان تكون السلطة الفلسطينية غائبة عن المشاركة في القمة الخليجية ـ العربية في حضور بايدن في السعودية.
ويروي المفاوض الاميركي السابق والخبير في الملف الاسرائيلي- الفلسطيني دينيس روس، في دراسة له نشرها معهد واشنطن، أنّه في العام 2007 قرّرت وزيرة الخارجية الاميركية آنذاك كوندوليزا رايس إطلاق مبادرة طموحة لحل النزاع الاسرائيلي ـ الفلسطيني، وكان هدفها تقديم المبادرة إلى قادة بلدان مجلس التعاون الخليجي، متوقعة منهم تبنّي وتأييد جهودها في شأن القضية الفلسطينية». يتابع روس: «ولدهشتها، أبدى السعوديون والإماراتيون والبحرينيون والقطريون والكويتيون والعمانيون اهتماماً ضئيلاً بمبادرتها، وبدلاً من ذلك أوضحوا انّ لديهم ثلاث اولويات: ايران ثم ايران ثم ايران. وتشاركت اسرائيل معهم الاولوية ذاتها».
وأضاف روس: «تصور وجود تهديد استراتيجي جامع وقوي ساهم في تعميق التعاون في المجال الأمني».
وتبدو رواية دينيس روس كافية لأخذ فكرة عن التحولات الجارية، والتي سيجري تكريسها. وهذه الورشة الهائلة الجارية في المنطقة تعني لبنان مباشرة. فالمعروف تاريخياً أنّ لبنان يتأثر بالتطورات الاقليمية التي تحصل. فكيف إذا كانت هذه التطورات على هذا المستوى الضخم، وفي وقت يعاني لبنان من مآسٍ على المستويات الاقتصادية والحياتية والمعيشية والمالية، وهو في حاجة الى مساعدات ملحّة. أضف الى ذلك، انّه على ابواب استحقاقات كبيرة وفي طليعتها استحقاق انتخاب رئيس جديد للجمهورية، من المفترض ان يحدّد صورة لبنان للسنوات الست المقبلة.
وعلى سبيل المثال، وفي استعراض للمحطات التاريخية، فإنّ سقوط حلف بغداد وصعود نجم الرئيس المصري جمال عبد الناصر أوصلا اللواء فؤاد شهاب الى رئاسة الجمهورية. واندلاع الحرب وإعادة صوغ توازنات جديدة تلحظ ضبط سوريا ورقابتها على منظمة التحرير الفلسطينية دفعا بالياس سركيس إلى دخول قصر بعبدا، والاجتياح الاسرائيلي للبنان والسعي لنسج اتفاقية ثانية للسلام بعد مصر فتحا الطريق امام رئاسة بشير الجميل ومن ثم شقيقه أمين الجميل. والاجتياح العراقي للكويت وإعادة تنظيم واقع الخليج من خلال الوجود العسكري الاميركي أنتجا تسوية لمصلحة سوريا، أوصلت في البداية خياراً سعودياً هو رينيه معوض، جرى اغتياله سريعاً، ليصل الخيار السوري الصافي إلى قصر بعبدا وهو الياس الهراوي.
وفي العام 2008 تمّت إعادة ضبط النزاع العنيف بين السعودية وايران او ما عُرف بـ 8 و 14 آذار، من خلال رئيس عسكري هو ميشال سليمان، يتولّى الإشراف على القرارين الأمني والعسكري وفق مسار مدروس. واخيراً وليس آخراً، وإثر تحول الحرب في سوريا لمصلحة النظام مدعوماً من ايران وروسيا و»حزب الله» تمّ انتخاب حليف «حزب الله» العماد ميشال عون.
ما يعني انّ مفتاح الحل للاستحقاق الرئاسي المقبل موجود في التسويات والتحولات الكبرى الجارية في المنطقة. وخلال الايام الماضية ظهر كلام حول تواصل سعودي مع «حزب الله»، وشروط تتعلق بوقف اطلاق النار في اليمن. لم تصدر أي توضيحات رسمية حول ذلك، ما يشي بوجود شيء من هذا القبيل.
والأهم، انّ من المنطقي حصول تواصل لترتيب الوضع في اليمن، طالما انّ ابواب التسويات مفتوحة على وسعها. وقد يكون لبنان في حاجة للانتظار بعض الوقت لتبيان الاتجاهات النهائية للتسويات، قبل ان تباشر فرنسا بإعادة تنشيط قنوات تواصلها مع «حزب الله»، والعمل على ترتيب عناوين المرحلة المقبلة انسجاماً مع التحولات الهائلة المتوقعة في الخليج.
طبعاً فرنسا معنية بإعادة مدّ الاقتصاد اللبناني ببعض الاوكسيجين، من خلال نسخة جديدة لـ»سيدر»، والأهم استتباع ذلك بمؤتمر مخصّص لتسوية سياسية سترعى انتخاب رئيس جديد للجمهورية ومرحلة إعادة الاعمار لاحقاً.
وكان واضحاً عمق التواصل بين الرئيسين الاميركي والفرنسي، من خلال الحديث الذي جرى تسريبه بالصوت والصورة، وقد يكون هذا التسريب متعمداً لإظهار مدى التفاهم والتنسيق بين واشنطن وباريس.
وهو ما يعني انّ لبنان يتجّه إلى نهاية النفق، وانّ الفراغ الرئاسي في حال حصوله لن يكون طويلاً. واستطراداً، فإنّ «مسرحية» تشكيل حكومة جديدة وفق مفردات المرحلة السابقة لم تعد صالحة.
يكفي ان نراقب جيداً التناغم بين باريس و»حزب الله» حول إعادة تسمية نجيب ميقاتي لرئاسة الحكومة، والأهم السلوك الجديد الحازم لميقاتي، والذي لطالما اشتهر بأسلوبه الزئبقي.