التحرش في مكان العمل… مسؤولية من؟
كتبت زينب حمود في الأخبار:
لم يأت قانون العمل على ذكر حوادث التحرّش الجنسي التي تكثر في أماكن العمل وتعيق مشاركة المرأة في المجال الاقتصادي، وترك للمؤسسات حرية وضع إجراءات وسياسات للحدّ منها. في لبنان، معظم المؤسسات وجمعيات المجتمع المدني غيّبت قضايا التحرّش عند وضع نظامها الداخلي. فقد خلصت دراسة أجرتها المؤسسة العربية للحريات والمساواة عام 2018 بعنوان: “نحو مكان عمل أكثر أماناً، لمحة عامة عن سياسات التحرّش الجنسي في القطاعات العامة والخاصة في لبنان” أن “هناك 14 مؤسسة فقط من أصل 42 شملتها الدراسة وضعت بنوداً في نظامها الداخلي يمكن اللجوء إليها للحماية من التحرّش والتخويف والاستغلال والتنمّر (33%). وست مؤسسات أنشأت سياسة للتحرّش الجنسي خصوصاً (15%)، اثنتان منها بطلب من الجهات المانحة الدولية.
ثغرات في قانون التحرّش
هكذا افتقدت النساء إلى مرجعية قانونية يلجأن إليها عند التعرض للتحرّش، إلى أن صدر قانون التحرّش الجنسي عام 2020. ورغم أهمية الخطوة، إلا أن التعاطي مع قضايا التحرّش ظلّ كالدخول إلى وكر دبابير لما يعتري القانون من ثغرات.
أولاً، عرّف القانون التحرّش بأنه “سلوك سيء وخارج عن المألوف”. وهذا “معيار قيمي فضفاض، فكلّ منا يرى ما هو سيء على طريقته، ما يفتح مجالاً واسعاً للتأويل ويسمح بانتقال السلطة من المتحرّش إلى المشرّع، إضافة إلى أنه لا يربط التحرّش بالضحية، ماذا تريد وبمَ تشعر”، كما تقول الباحثة والشريكة المؤسسة لمبادرة “متعقب التحرّش” ناي الراعي.
ثانياً، لم يحدّد القانون تدابير تنفيذية وتأديبية واضحة وقابلة للتطبيق. تسأل الراعي: “إذا تعرّضت سيدة للتحرّش من قبل مديرها، هل تشتكي عليه وتمارس عملها بشكل طبيعي؟ وهل يصرف رئيس مجلس إدارة نفسه بنفسه؟ وهل تضحّي الضحية بعملها من أجل فضحه؟”، مشيرة إلى أن القانون لم يذكر أيضاً أين تبلّغ الضحية، وأي أدلّة يجب تقديمها لإثبات الجرم، وما هو مسار الدعوى القضائية.
ثالثاً، استند إلى قوانين بالية “مثل قانون العمل الذي يعود إلى العام 1946 ولا يأتي على ذكر التحرّش، والأهم من ذلك أنه يستثني مجموعة من العاملين”. ففي حين ينصّ قانون التحرّش الجنسي في المادة الثانية فقرة “ب” على العقوبة بالحبس من ستة أشهر إلى سنتين وبغرامة من عشرة أضعاف إلى عشرين ضعف الحد الأدنى الرسمي للأجور أو بإحدى هاتين العقوبتين إذا كانت جريمة التحرّش حاصلة في إطار رابطة التبعية أو علاقة العمل، إلا أنه لم يلحظ أن قانون العمل يستثني العاملين بدوام جزئي والمزارعين والعاملات الأجنبيات الأكثر عرضة للتحرش والذين تسقط عنهم علاقة العمل.
لجنة تحقيق؟
بناء عليه، عندما صوّبت الاتهامات بالتحرّش باتجاه أحد العاملين مع الجمعية اللبنانية من أجل ديموقراطية الانتخابات “لادي”، وتجمّع نقابة الصحافة البديلة، واجهتا صعوبة في التعامل مع الأمر. تؤكد عضو تجمّع نقابة الصحافة البديلة ألسي مفرج ذلك بالقول: “لدى تبلّغنا شكوى من مؤسسة صديقة تتهم أحد الأعضاء بالتحرّش، وقع التجمّع في حيرة من أمره: هل يجب تشكيل لجنة تحقيق بما حصل؟ وهل يحق لهم ذلك؟ وبعد استشارة مجموعة من المحامين أجمعوا أن هذه اللجنة تُشكل عندما تحصل حادثة التحرّش داخل المؤسسة أو إذا جرى استغلال اسمها وصفة المتحرّش فيها، ولأن الحادثة حصلت خارج المؤسسة وحتى قبل تأسيسها بسنوات لم تشكل اللجنة وترك للناجية حرية الادعاء الخاص”. الضياع نفسه انسحب على جمعية “لادي” التي تحكي لـ”الأخبار” عن “مصاعب واجهت الجمعية في التعاطي مع حادثة لم نعتد على مواجهة ما يشبهها، وتشرح: “النظام الداخلي للمؤسسة يعطي للهيئة الإدارية صلاحية فصل أحد أعضاء الهيئة العامة بموجب قرار
معلّل، إلا أنه لم يلحظ آليات للتعامل تحديداً مع حالات التحرّش”.
مسار جديد
من جهة ثانية، أظهرت هذه الحادثة مساراً جديداً في التعاطي مع قضايا التحرّش داخل مكان العمل. إذ اتخذ قرار لجنة التنسيق في تجمّع النقابة والهيئة الإدارية في “لادي” بتعليق عضوية العضو محل الشكوى فور ورود الشكوى “انطلاقاً من المبادئ التي ينص عليها النظام الداخلي”، كما تبرّر المؤسستان، قبل أن يقدم استقالته.
هل يحلّ النظام الداخلي للمؤسسات مشكلة مواجهة حالات التحرّش؟
بعدها وصلت إلى تجمّع النقابة شكاوى من سيدات اتهمن الشخص ذاته بالتحرش، ففتح تحقيق داخلي أو ما يسمى بلجنة استماع إلى الناجيات من التحرش “في إطار وضع سياسات لإنصافهن وتأمين مساحات آمنة للنساء في التجمع”. ويطمح التجمّع إلى “تطبيق ذلك في المؤسسات الإعلامية الخاصة حيث تكثر حوادث التحرّش ويستخدم المتحرّش نفوذه وسلطته على الضحايا”.
وترى “لادي” أن ما حدث “شكّل حافزاً لتطوير السياسة المتصلة بشأن التعاطي مع حالات كهذه تقع ضمن الجمعية و/أو من قبل أحد أعضائها، ووضع آليات حماية لضمان مساحات آمنة لكلّ النساء العاملات أو المتطوّعات في الجمعية، وقد تم تشكيل لجنة داخلية لهذا الغرض”.
نحو سياسات داخلية
أخيراً، من الخطأ إلقاء المسؤولية الكاملة على عاتق الدولة والاتكال على قانون التحرّش الجنسي الذي يعجز عن حل المشكلة بنيوياً. كما من الخطأ تحميل الضحايا عناء الوصول إلى محام وتكاليف رفع دعوى قضائية وحرمانهن من عملهن بانتظار البت بالقضية الذي يأخذ فترة طويلة في محاكمنا. وعليه، يجب تحميل كلّ الأطراف المسؤولية، أهمها المؤسسات الاقتصادية والتعليمية ووسائل النقل والنوادي الليلية وغيرها من الأماكن التي تكثر فيها حوادث التحرّش، عن طريق وضع سياسات في الأنظمة الداخلية لمكافحة التحرّش الجنسي بما يوفر بيئة عمل آمنة للنساء ويحقق العدالة الاجتماعية.