لبنان

هل تستعيد إدارة المناقصات دورها المنقوص؟

كتبت كارين عبد النور في “نداء الوطن”:

مناقصات، دفاتر شروط، استدراج عروض، مواصفات. قلّما تمر فترة لا نسمع فيها عن خلافات أو أخذ وردّ بين إدارة المناقصات وإدارات ووزارات أخرى محورها العبارات تلك. قد تكون «الاشتباكات» الإعلامية مع وزراء الطاقة المتلاحقين أكثرها حدّة وعلنية. ربما لأن ملف البواخر والفيول ودهاليزه أكثر ما يؤرق اللبنانيين بما يشبه «قصّة إبريق الزيت». لكن المسألة أكثر تشعّباً وشمولاً. فما هي آلية عمل إدارة المناقصات ودورها الفعلي – وهل يُتاح لها ممارسته؟ وماذا عن المعوّقات التي تواجهها في ظل تحوّل التحايل على القانون إلى «شطارة» في أحسن الأحوال وإلى «ثقافة» في أسوئها؟

من نافل القول إن عقد الصفقات مسألة بغاية الأهمية على الدولة التصدّي لها تلبية لحاجات المواطنين. ومع تزايد المتطلبات التقنية، بات توفير الخبرات العالية في آليات التفاوض والإجراءات التمهيدية أساسياً، بهدف ضبط الثغرات الفنية والقانونية المتضمَّنة في العقود التي قد يتم استغلالها من قِبل المتعاقدين التفافاً على بنودها. وحيث أن الدولة لا تتدخل مباشرة في تنفيذ الصفقات العمومية – إلا في حالات استثنائية – فقد أُنيطت إدارة تلك الإجراءات بإدارة المناقصات التابعة للتفتيش المركزي. علماً أن العقود العامة التي تجريها الدولة والهيئات التابعة لها تتّخذ أشكالاً عدّة: فإما أن تقوم الإدارة بشراء حاجياتها مباشرة، وهو ما يُسمّى الشراء العام ويتم عبر مناقصات عامة، أو بالبيع العام ويتم عن طريق المزاد العلني، وإما باستدراج العروض أو بالاتفاق بالتراضي.

عن النشأة، الدور والصلاحيات

أُنشئت إدارة المناقصات في العام 1959 بموجب المرسوم التنظيمي رقم 2460/59. وقد أوجب المرسوم رقم 2866/59 (نظام المناقصات) على المؤسسات العامة والبلديات واتحادات البلديات اعتماد ذات الأسس المطبّقة على الإدارات العامة في ما خص الصفقات العمومية. لكن رغم أهميته، بقي نظام الأسس الموحّدة مجرّد حبر على ورق دون أن يُعمل به. يقع مقرها في مبنى التفتيش المركزي في الحمرا، وهو مستأجر، بالمناسبة، وليس ملكاً للدولة. ويبلغ عدد موظفيها 12 موظفاً فقط: مدير عام، مهندسان، أخصائيا معلوماتية وكيمياء، موظفا ملاك (محرّر)، متعاقدان، مستكتب وأجراء. مهمة الإدارة الأساس هي انتقاء أفضل العروض المقدمة لتلزيم الصفقات العمومية، كما إسناد الصفقات العامة بآلية تعاقد سليمة تخضع لمجموعة من الإجراءات والأنظمة التي تُحدّد طرق عملها، وتسمى “نظام المناقصات العامة”. من هنا يمتدّ دورها ليشمل اقتراح القواعد التنظيمية، مراقبة تطبيق القواعد الإجرائية، تجميع المعلومات حول الصفقات العمومية ثم تحليلها لاستخدامها في تحضير الموازنة كما عمليات الرقابة على القيمة الموازية للإنفاق.

أما دورها الرقابي، فيندرج في إطار مكافحة الفساد وترشيد الإنفاق العام، من خلال رصد المناقصات المخالِفة وإعلام المؤسسات الرقابية بها كما إصدار التقارير ذات الصلة لاتخاذ القرارات المناسبة.

نطاق صلاحيات إدارة المناقصات يشمل حالياً جميع إدارات الدولة الرسمية والوزارات، باستثناء كل ما له طابع أمني (أمن داخلي، أمن عام، أمن دولة، إلخ). أما البلديات والمؤسسات العامة (مثل شركة كهرباء لبنان ومجلس الإنماء والإعمار)، فهي تقع خارج نطاق صلاحيات الإدارة. كما يُستثنى منها الصفقات التي لا تتخطى قيمتها مئة مليون ليرة لبنانية متى أجريت بطريقة استدراج العروض. كذلك، فهي تتولّى مسؤولية إبداء الرأي، بناء للطلب، في بعض المناقصات التي تُجرى خارجها، إضافة إلى إجراء المزايدات العمومية.

آليّة العمل

بداية، تُرسل الوزارة المعنية المعاملة إلى إدارة المناقصات محتوية على المستند الرئيسي، أي “دفتر الشروط الخاصة”، والذي تتم على أساسه الإجراءات اللازمة والتعاقد لاحقاً مع الطرف الفائز. في حديث مع “نداء الوطن”، يقول مدير عام إدارة المناقصات جان العلّية: “حين يصلنا دفتر الشروط، نتأكد أولاً من إدراج المناقصة في “البرنامج السنوي” العام للوزارة المعنية والذي يحضَّر مسبقاً استناداً لموازنتها، عدا المشاريع الطارئة التي تحتاج إلى موافقة استثنائية من مجلس الوزراء. كذلك يجب أن يحتوي الملف على المستندات المطلوبة، مع وجود ما يثبت توفّر اعتماد للنفقة موضوع الصفقة، إضافة إلى تصديق دفتر الشروط الخاصة من المرجع الصالح وانطباق أحكامه على القوانين والأنظمة. ثم يتعيّن التأكّد من خلوّ دفتر الشروط الخاصة والمستندات من كل ما من شأنه تقييد المنافسة أو ترجيح كفة أحد المنافسين. شرط آخر أساسي يتمثّل بعدم تجزئة الأشغال أو اللوازم بغية التهرب من تطبيق الأحكام القانونية ناهيك عن صحة تقدير الكميات والأسعار”. وبعد أن تُنهي الإدارة عملية التدقيق هذه، تضع ملاحظاتها على الملف وترسل نسخة منه إلى التفتيش المركزي. هنا، إمّا أن توضح الإدارة المعنية الملاحظات وبالتالي تُطلَق المناقصة على أساس مبدأ الاستجابة، أو يصرّ على عدم الأخذ بالملاحظات، فترسل المعاملة عندها إلى مجلس الوزراء الذي من صلاحياته إصدار قرار “إصرار وتأكيد” على التنفيذ رغم الملاحظات أعلاه (على غرار ما حصل في ملف الطاقة).

وهكذا يتم الإعلان عن المناقصة في الجريدة الرسمية وفي ثلاث صحف محلية كما يُنشر على الموقع الإلكتروني الخاص بالإدارة: www.ppma.cib.gov.lb. تجدر الإشارة إلى أن مدة الإعلان القانونية هي 15 يوماً يمكن أن تُخفّض إلى 5 أيام (بحسب قرار يصدر من الوزير المعني مباشرة بوصفه المرجع الصالح للعقد). وهي مهلة تحضّر خلالها العروض وتُرسل قبل نهايتها إلى قلم إدارة المناقصات التي تحوّلها إلى لجنة التلزيم لدراستها. يُشكل مدير عام إدارة المناقصات “لجنة تلزيم” مستقلة بعملها تماماً عن الإدارة وتتألف من أصحاب اختصاص مهمتهم التدقيق بالعروض المقدمة، ليُرسَل بعدها تقريرالتدقيق إلى ديوان المحاسبة. ويشير العلّية في هذا السياق: “لا نتدخل أبداً في عمل اللجنة إلا إذا طلبت منا الاستعانة بخبير فيقتصر دورنا على تكليف خبير من أصحاب الاختصاص. لكن في حال وجود أي ملاحظات من قبلنا على عملها، نرفقها بالمحضر قبل إرساله إلى ديوان المحاسبة”. دور ديوان المحاسبة يتمحور حول المراقبة المالية المسبقة على العقد، وغالباً ما يؤخَذ بملاحظات إدارة المناقصات وقد تكون لديوان المحاسبة ملاحظات إضافية على عمل لجان التلزيم. فإذا تمّت الموافقة، تُرسل المعاملة إلى الوزارة المعنية كي يتمّ تنفيذ المشروع، وخلاف ذلك (الأسباب عديدة منها، على سبيل المثال، إيجاد خلل معيّن في عمل لجنة التلزيم، نصوص احتكارية أو تفضيلية أو حصرية في دفتر الشروط…) يُعرض الموضوع على مجلس الوزراء الذي، ما يلفت الانتباه، أجاز له القانون إمكانية تخطّي قرار ديوان المحاسبة ومنح موافقة مباشرة للشروع بالعمل. سؤال مشروع هنا: لِم الغوص في الآلية المذكورة طالما يحق لمجلس الوزراء تجاوز الملاحظات والاعتراضات التي قد تتأتى عنها؟

سوء تخطيط ومنافسة غير عادلة

بين النص وتطبيقاته ثمة عقبات عدّة تواجهها إدارة المناقصات، لا سيما أن نظام الصفقات العمومية يتخلله دوماً ثغرات تفسح في المجال للتحايل على القانون. قد يكون مفهوماً من حيث المبدأ أن حالات استثنائية قد تنشأ هنا وهناك لتمنع تنفيذ القوانين بحذافيرها. لكن المشكلة هي في تطبيق الاستثناء حيث يجب ويمكن أن تُطبّق القاعدة. والحال أن من أبرز التحديات التي تواجهها الإدارة، وفق العلّية: “أولاً غياب الإدارة الموحّدة والمعلومات المركزية، إذ لا تخضع الصفقات المموّلة من المال العام جميعها للإدارة، كما أن الكثير من المؤسسات لا تُزوّدنا بمعلومات عن حجم صفقاتها. فنسبة الإنفاق ضمن إدارة المناقصات في مجال الصفقات العمومية لا تتخطى 5% من مجمل الإنفاق العام عليها”.

مشكلة أخرى سببها تخفيض مدة الإعلان إلى خمسة أيام، ما يؤدي إلى إلغاء المنافسة أو الحدّ منها. وهي مشكلة تتفاقم مع عدم التزام الوزارات بإعلان برنامجها السنوي والذي يُعتبر الخطوة العملية الأولى لإعداد موازنتها. كل ذلك يدل على غياب التخطيط في بعض الإدارات ما يخلّ بمبدأ العلنية والمساواة، لأن بعض العارضين قد يكونون على علم مسبق بالصفقة في حين أن الراغبين بالدخول في المناقصة لا يُعطون الوقت الكافي لإنجاز ملفاتهم خلال مهلة الأيام الخمسة.

نأتي إلى تجزئة الصفقات التي هي مخالفة لا تقلّ أثراً عن غيرها. فالغاية منها تَجنّب الخضوع لرقابة إدارة المناقصات، حيث يتم استدراج عروض مجتزأة لا تزيد قيمة كل منها عن مئة مليون ليرة ويُحصر قرار البت بها مباشرة بالوزارات المعنية. من ناحيتها، فإن القرارات الصادرة عن السلطة التنفيذية بإجراء صفقات بطرق غير تنافسية أو تكليف لجان لتحضير دفاتر شروط بدلاً من الإدارة المعنية أو تعيين أعضاء في لجان التلزيم، تُعتبر هي الأخرى مخالفة واضحة لأحكام قانون المحاسبة العمومية. ومن الأمثلة: صفقتا تلزيم شبكتي الهاتف الخلوي ومراكز المعاينة الميكانيكية واستدراج عروض بواخر الطاقة. هذا دون أن ننسى الاتفاقات الرضائية التي تحصل دون مراعاة الشروط العامة.

الاسم سيتغيّر… فهل يتفعّل الدور؟

إذ يلفت العلّية إلى عمل الإدارة الدؤوب لناحية المواظبة على رفع دراسات واقتراحات وتقارير إلى الوزارات المعنية، للحدّ من ثغرات التحايل على القانون وتوفير هدر المال العام، أعلن عن سلسلة خطوات مستقبلية تتعلق بعمل الإدارة، متمنياً أن تبصر النور قريباً. فقانون الشراء العام الذي أقرّه المجلس النيابي مؤخراً سيبدأ العمل به ابتداء من شهر تموز المقبل حيث سيُستبدَل من خلاله اسم “دائرة المناقصات” بـ”هيئة الشراء العام”. وهي ستتمتع بصلاحيات أوسع على صعيد مراقبة الصفقات العامة، ومنها: خضوع البلديات والمؤسسات العامة وسائر الجهات والهيئات الممولة من الأموال العمومية (مرفأ بيروت، الهيئة العليا للإغاثة…) إلى رقابة هيئة الشراء العام بعد أن كانت خارج نطاق إدارة المناقصات؛ منح الهيئة الحق في إبداء الرأي والاعتراض أمام القضاء الإداري أو النيابة العامة المالية أو هيئة الاعتراضات (هيئة مستقلة مستحدثة يعيّنها مجلس الوزراء وهدفها البتّ بالنزاعات قبل بلوغها القضاء)، في ما يختص بالمراجعات التي تتضمن مخالفات لقواعد ومبادئ قانون الشراء العام؛ علماً أنه وبموجب قانون الشراء العام فقد تمّ تمديد مدة الإعلان القانونية إلى 21 يوماً قابلة للتخفيض إلى 15 يوماً، بعد أن كانت 15 يوماً و5 أيام على التوالي.

وعن سؤال أخير حول مصير المناقصات التي يستحيل تنفيذها نظراً لانهيار قيمة العملة الوطنية، أوضح العلّية أنّه “بناء لاجتماع ضمّ كلاً من لجنة الأشغال العامة والنقل والطاقة والمياه، ديوان المحاسبة وإدارة المناقصات وجهات معنية أخرى، تمّ الاتفاق على معالجة كل حالة على حدة. فهناك مناقصات شارفت على نهايتها، وأخرى لم تبدأ بعد يمكن إلغاؤها. أما ما تبقى فسيُعرض على ديوان المحاسبة بصيغة مصالحات للبتّ بها”. مع العلم أنه نظراً لعدم تقدّم منافسين مؤخراً لأي من المناقصات المعلنة (بسبب اعتماد سعر الصرف الرسمي – 1507.5)، يتم التداول بمقترح يقضي بالدفع على سعر صيرفة، خاصة بما يتعلق بالعقود المرتبطة باستيراد مواد من الخارج بالدولار الأميركي.

لا شك أن اعتماد الشفافية والتزام المعايير هما شرط شارط لإدامة العمل المؤسساتي وتحريك العجلة الاقتصادية كما كبح جماح الفساد ولجم الهدر في القطاع العام. سواء سُمّيت “إدارة المناقصات” أو “هيئة الشراء العام”، تبقى الحاجة إليها ولتعزيز دورها أكثر من ملحّة. وفي تحقّق ذلك من عدمه مؤشر حول توفّر جدية إصلاح الممارسات التي أوصلتنا إلى هذا الدرك. لنراقب ونرَ. يبيّن الرسم البياني حجم الصفقات المجراة داخل وخارج إدارة المناقصات للعامين 2018 و2019 (تقرير العام 2020 لم يُنجز بعد) مقارنة مع ثلاث إدارات ومؤسسات عامة. وهو يشير إلى النسبة الطاغية للمناقصات التابعة لمجلس الإنماء والإعمار غير الخاضعة لرقابة إدارة المناقصات.

مقالات ذات صلة