البنزين “يحرق” الأمل بعودة انتظام الإدارات ويسرّع الإنهيار
كتب خالد أبو شقرا في “نداء الوطن”:
تحدّ جديد، لم يكن في الحسبان، يواجه الاقتصاد ومن خلفه المواطن. فالارتفاع الهائل بسعر برميل النفط، حوّل السباق بين «سلحفاة» التصدي للأزمة، و»أرنب» التضخم العالمي، إلى مباراة مضنية. وما يزيد من بطء «المتباري» اللبناني، ويهدّد بسقوطه «ميتاً» وسط الحلبة، هو استمرار دعم المحروقات واستنزاف المزيد من الاحتياطيات.
إستيقظ اللبنانيون صباح يوم أمس على ارتفاع سعر صفيحتي البنزين والمازوت بقيمة 28 ألف ليرة، و41 ألف ليرة على التوالي، فيما ارتفع سعر قارورة الغاز بقيمة 15 ألف ليرة. وعلى هذا الأساس لامس سعر صفيحة البنزين 400 ألف ليرة، فيما وصل سعر المازوت إلى 375 ألفاً والغاز إلى 288 ألف ليرة (تباع فعلياً بأكثر من 310 آلاف).
سبب الارتفاع هو تخطي سعر برميل النفط عتبة 116 دولاراً، وارتفاع سعر «كيلوليتر» البنزين 61.47 دولاراً، والمازوت 97 دولاراً. وذلك على الرغم من الثبات والاستقرار في سعري صرف الدولار. حيث «أبقى مصرف لبنان سعر صرف الدولار المؤمّن من قبله وفقاً لمنصة صيرفة لاستيراد 85 في المئة من البنزين على 20200 ليرة. فيما احتسب سعر 15 في المئة، المتوجب تسديده نقداً، على سعر 20703 ليرات»، بحسب عضو نقابة أصحاب المحطات جورج البراكس.
إنعكاس ارتفاع أسعار المحروقات على مختلف السلع والخدمات، ولا سيما منها النقل ومولدات الكهرباء، «تحصيل حاصل»، إلا أن التأثير الأكبر سيكون في الموازنة ومصرف لبنان.
أرقام الموازنة وضعت على أساس سعر برميل نفط يتراوح بين 72 و81 دولاراً، فيما السعر تخطى 118 دولاراً، وهو مرشح للارتفاع أكثر خلال القادم من الأيام. الصدمة الأولى ستتمثل في فقدان تعرفة النقل، الموضوعة في الموازنة على أساس 64 ألف ليرة، صلاحيتها. إذ بحسب رئيسة رابطة موظفي الإدارة العامة نوال نصر، فان «الرقم أصبح وكأنه غير موجود. وهو يعادل 3 ليترات بنزين، لا تكفي لقطع أكثر من 10 كيلومترات».
المصيبة أن إعطاء بدل النقل الهزيل هذا، والمساعدة الإجتماعية المدرجان في الموازنة، مشروطان بتأمين الحضور بنسبة 66 في المئة قبل نهاية آذار وبشكل يومي بعد هذا التاريخ طيلة فترة الدوام الرسمي.
وبحساب بسيطة يتبين أن «حصيلة العطاءات الاجتماعية + بدل النقل + الراتب الأساسي + الدرجات الخمس المعطاة بعد العام 2017 لموظف في الفئة الخامسة تبلغ يومياً 1.6 دولار»، بحسب نصر. يخصم منها حوالى 13 في المئة تتوزع على ضريبة الدخل، ومساهمة في صندوق التقاعد بنسبة 6 في المئة، ولصندوق التعاونية أو الضمان بنسبة 3 في المئة». أما «يومية» الموظفين من الفئتين الرابعة والثالثة من حملة الاجازات، فتتراوح بين 2.2 و3 دولارات يومياً». ما يعني أن الراتب الشهري لا يكفي مصروف يوم واحد حتى مع الزيادات. وهذا ما يمثل تصفية جسدية حقيقية لموظفي الدولة والإدارات العامة على حد سواء، على حساب دعم بقية القطاعات. حيث يرد في مشروع الموازنة مبلغ بقيمة 191 مليار ليرة لدعم الرواتب والأجور في مؤسسة أوجيرو على سبيل المثال لا الحصر.
أمام الارتفاعات الكبيرة في أسعار المحروقات ما زال مصرف لبنان يدعم كل دولار الاستيراد بـ 500 ليرة، أو ما يعني 500 مليار ليرة إذا افترضنا أن قيمة الاستهلاك السنوي تصل إلى 1 مليار دولار. مع العلم أن مبلغ الدعم لم يعد يقدم أو يؤخر مع المواطنين، فيما يرتب أعباء إضافية على مصرف لبنان الذي يستمر في استنزاف الاحتياطيات. والأغرب من هذا كله أن هذا الدعم المموه يُبقي على تدخل وزارة الطاقة والمياه في القطاع، وإصدارها جدول الأسعار بوتيرة يومية. فيما المطلوب اليوم «تحرير القطاع كلياً من دعم مصرف لبنان وتدخّل وزارة الطاقة في الأسعار»، يقول الخبير في مجال النفط والغاز د. شربل سكاف. «إذ لم يعد جائزاً بأي شكل من الأشكال استمرار المسؤولين بإيهام الرأي العام أنهم يقفون إلى جانبه بالدعم الهزيل لسعر البنزين، فيما يدفعون ثمن هذا الدعم مزيداً من الانهيار الاقتصادي على الصعيد الوطني».
«ما لم يؤخذ بعد في الإعتبار لغاية اللحظة هو أن الحرب الروسية على أوكرانيا مفتوحة على كل الاحتمالات»، يقول سكاف. «خصوصاً أنه بحسب الظاهر من المعطيات لن تكون سريعة. الأمر الذي قد يرتد مزيداً من الارتفاعات في أسعار النفط العالمية، ويؤدي على الصعيد الداخلي إلى ما لا تحمد عقباه. لذا من المهم جداً اليوم الاسراع في كسر هذه الحلقة المفرغة التي ندور فيها، من خلال وقف الدعم عن بقية المشتقات النفطية والذهاب مباشرة إلى الاصلاحات البنيوية، ووضع الاقتصاد على السكة الصحيحة».
مع رفع الدعم كلياً، تنتفي حاجة وزارة الطاقة للتدخل في تسعير المشتقات النفطية وإصدار جدول تركيب الأسعار بشكل يومي. وذلك على غرار كل الدول في العالم، حيث تتحدد أسعار البنزين والمازوت والغاز على أساس قواعد العرض والطلب في السوق. وقد تختلف الأسعار من شركة الى أخرى. ففي فرنسا على سبيل المثال لا يوجد سعر موحد بين الشركات. وكل شركة تحدد سعر ليتر البنزين بشكل مختلف عن الأخرى»، يقول سكاف. وهذا الهامش في اختلاف الأسعار يزيد المنافسة بين الشركات، ويحسن الخدمة ويزيد التقديمات لكسب الزبائن. وبرأي سكاف «لا يمكن للاقتصاد أن يتابع بسياسة الدعم الاشتراكية، فيما البلد أفلس وفقد كل مداخيله ويستنزف ما بقي من توظيفات إلزامية في مصرف لبنان. والأخطر من هذا كله أنه لم يجر لغاية اللحظة أي إصلاح بنيوي. فلم ننجز مراجعة للقطاع العام، ولا خطة تحريرية لقطاع الكهرباء تسمح ببناء الشركات الصغيرة في الاقضية وفتحها للمنافسة… وغيرها الكثير من التدابير والاجراءات المهملة».
مواجهة السلطة للتحولات الخارجية والداخلية بعدة العمل القديمة المرتكزة على المحاصصة وإهمال الاصلاحات الجوهرية لم تعد تنفع. وإن لم يتم العمل على فتح الاسواق أمام المنافسة الجدية، ووقف مهزلة الدعم، وتنفيذ الشروط الاصلاحية الآنية والمستقبلية، فان البلد ذاهب إلى كارثة إجتماعية واقتصادية غير مسبوقة.