ما يرويه قاضٍ عن التدخلات السياسيّة
كتبت أنديرا مطر في “القبس”:
«القضاء والجيش هما المؤسستان اللتان لا تزالان تحظيان بثقة غالبية اللبنانيين رغم التشوهات التي يحاول البعض الصاقها بهما من حين إلى آخر، وعليهما نعول اذا كان لا بد من إنهاض لبنان من أزمته»، يقول مدع عام وقاض لبناني.
يروي القاضي معاناته وزملائه في الآونة الأخيرة، التي تتداخل فيها عوامل مادية ومعنوية، ويقول لـ القبس: «لا شك ان الشق المالي يؤثر بشكل كبير في عمل القاضي، وإنما القاضي مستعد أن يعمل باللحم الحي ويبقى في عمله، المشكلة الأكبر هي في تهميش القاضي معنويا، عبر التدخلات الساسية بأمور القضاء».
ويضيف: «سعينا دائما إلى استقلالية القضاء، وأؤكد ان القضاة يحاولون القيام بواجبهم غير أن السياسة تعترضهم. وأكبر دليل ما يحصل في ملف التحقيقات في جريمة تفجير مرفأ بيروت وسواها من الملفات».
عندما تضعف الدولة تشعر الأحزاب والقوى السياسية أنها بموقع أقوى من الدولة بما يسمح لها بالتدخل بشؤون القضاء. «منذ مطلع التسعينيات ومع تحكم الأحزاب بالسلطة وتقاسم كعكتها، اضروا بالقضاء الى درجة كبيرة»، يقول القاضي.
تكاليف وأرصدة مجمدة
في لبنان عدد كبير من القضاة المحصنين يقومون بعملهم على أكمل وجه، وإنما ما نعيشه اليوم في ظل اسوأ انهيار مالي وسياسي يدفع بقضاة إلى الاستقالة، أولاً بسبب الضغوطات السياسية، وثانيا بسبب الأوضاع المادية.
يسأل النائب العام بحرقة: هل يعقل ان يتقاضى قاض عمل لمدة 35 سنة في العدلية راتب 7 ملايين ليرة لبنانية؟ أي ما يوازي 280 دولارا بحسب سعر صرف الدولار اليوم في لبنان!
ويعاني القضاة هذه الأيام كغيرهم من اللبنانيين من أزمة الوقود والبنزين والانتقال إلى مكان العمل، حيث إن القاضي المقيم في بيروت ووظيفته في الشمال او في البقاع مثلا ويحتاج الانتقال اليها 3 مرات اسبوعياً على الأقل، يعني انه يحتاج ذهاباَ وإياباً الى 3 صفائح بنزين أسبوعياً بتكلفة تقارب مليون ليرة، وعلى هذا المنوال يتخطى مصروف سيارته أربعة ملايين ليرة شهرياً. «بثلاث كلمات لا أكثر: طار تلتين الراتب»، يقول القاضي لـ القبس.
يستطيع أي قاض أن يتحمل هذه الأعباء لشهر او شهرين وليس أكثر، لا سيما أن لا مدخول آخر لديه سوى عمله.
والقضاة شأنهم شأن سائر اللبنانيين، أموالهم محتجزة في المصارف. «أسحب شهريا 800 دولار على سعر 3900 ليرة بسبع قيمة الدولار في السوق الموازية لكي اغطي نفقاتي»، يقول القاضي.
أعباء في مكان العمل
الى الضغوط السياسية والأعباء المادية المرهقة ثمة عوامل أخرى نجمت عن الأزمة المالية تعوق عمل القضاة وتجعلهم يأنفون من العمل. «نعمل احيانا بالعتمة بسبب انقطاع التيار الكهربائي.. الحد الادنى من الامور اللوجستية غير متوافر، لا مطبوعات، لا اوراق، وآلات التصوير في الدوائر كلها باتت معطلة، سجل الأساس لقيد الدعاوى غير موجود.. نعمل باللحم الحي وسط ظروف صعبة جداً جداً، وإضافة الى ذلك كله، توقف عمال التنظيفات في قصور العدل عن الحضور الى العمل وانتشرت القمامة في كل مكان».
مشرحة الإعلام والسياسة
وبالرغم من الأجواء السلبية وغير المشجعة يكرر القاضي مقولته «نتحمل هذه الأوضاع البائسة كلها، أما الضغط السياسي فيصعب تخطيه، وقد أصبح كل قاض يصدر حكماً ما تحت مشرحة الاعلام والتدخل السياسي».
ويوضح: «هناك طرق حددها القانون للمراجعة بشأن أي حكم يصدر عن القضاء، القابل للاستئناف يستأنف، والقابل للاعتراض يتم الاعتراض عليه او يتم تمييزه. وفي حال أخطأ القاضي يمكن تقديم شكوى بحقه لدى التفتيش القضائي، أما اليوم ما إن يصدر حكماً حتى يصبح تحت مقصلة الاعلام. القاضي رصيده سمعته ونزاهته وعدالته ونصف الناس اعداء لمن ولى الأحكام».
لا اقول ان معظم القضاة يتسمون بالنزاهة، القضاء أسوة بسائر القطاعات فيه الصالح وفيه غير الصالح وهم أقلية. من هنا مطلبنا دائما بتعزيز دور التفتيش القضائي. نحن جزء من هذا المجتمع، الذي تنهار مؤسسساته الواحدة تلو الاخرى. ويبقى القضاء هو الملاذ الاخير للناس «الا اذا كان المطلوب ان نعيش في غابة»، يختم النائب العام كلامه.