كيفية توزيع الصلاحيات الدستورية في الدولة الفدرالية
كتب المحامي ادغار قبوات:
إن آلية توزيع الصلاحيات الدستورية بين السلطة المركزية والوحدات المحلية امر محسوم في الأنظمة الفدرالية كافة، حتى ولو تميّزت هذه الدول عن بعضها البعض جزئيا. إلا انه ثمة مسلّمات علمية لا يمكن تجاوزها.
تنحصر السياسة الدفاعية والنقدية والخارجية في كل الأنظمة الفدرالية بيد السلطة المركزية من دون سواها. إنها لوحدها صاحبة السيادة الوطنية، ولا يمكن للولايات إبرام المعاهدات الدولية، والإنتماء إلى هيئات دولية، وان تكون موضع تمثيل دبلوماسي في الخارج. بالمقابل، فإن الولايات تتمتّع بصلاحيات واسعة في المجال الضريبي والتجاري والتربوي والعائلي والمصرفي… كما تتحلّى بمؤسساتها السياسية والقضائية كافة، وبدستورها الذي يعلو المنظومة الداخلية للولاية. إن الخلافات الناشئة عن توزيع الصلاحيات الدستورية بين كل من السلطة المركزية والولاية، يخضع لرقابة المحكمة الفدرالية العليا التي تتولّى امر تفسير الدستور، ويكون قرارها مبرم وملزم لجميع الأطراف، بما فيها السلطة المركزية. لا شيء يمنع ايضا من ان تعقد الولايات تفاهمات مع بعضها البعض في الميادين المخصصة لها، وذلك دون المرور بالسلطة المركزية ودون اخذ موافقتها.
يتميّز النظام الفدرالي بإزدواجية افقية في لأنظمة الدستورية المعمول بهادوليا. فالمواطنون خاضعون في الوقت نفسه للتشريعات المعتمدة من قبل الدولة المركزية، وفي الوقت نفسه، لتلك المعتمدة في الدول الأعضاء او الولايات، مع العلم بأن القانون المعتمد في ولاية مثلا، قد تختلف مضامينه عن القانون المعتمد في ولاية اخرى، حتى ولو تناول الموضوع عينه. فثمة حرية معطاة للولايات للتشريع وفقا لإستنسابها المطلق، ولكن ضمن السقف المحدد في الدستور الفدرالي، مما قد يسبب تفاوتا في الحقوق والواجبات بين جميع مواطني السلطة المركزية. إلا ان الأنظمة الفدرالية إعتمدت نهجين لتفادي التفاوت في الحقوق والواجبات. النهج الأول، يقضي بأن ينصالدستور الفدرالي حصرا على تعداد الصلاحيات الدستورية المعطاة للسلطة المركزية بصورة صريحة. فكل ما لم يتم تعداده حصرا في متن الدستور،يناط حكما بالولايات، كما هو الحال في الولايات المتحدة الأميركية مثلا. هذا النموذج يعطي صلاحيات واسعة جدا للولايات، التي تتولّى كل الحالات الطارئة التي يمكن ان تطرأ والتي لم يتولّ الدستور الفدرالي امر التنبؤ لها. اما النموذج الثاني، فيتولّى بموجبه الدستور الفدرالي تعداد الصلاحيات الدستورية المعطاة للولايات بصورة صريحة. فكل ما لم يتم تعداده حصرا في متن الدستور، يناط حكما بالسلطة المركزية، كما هو الحال في كندا وإلمانيا. هذا النموذج، بالعكس، يعطي صلاحيات واسعة جدا للسلطة المركزية على حساب الولايات.
كما يتميز النظام الفدرالي بضمانات دستورية واسعة للوحدات المحلية، كون الصلاحيات الممنوحة لها مكرسة في الدستور الفدرالي الذي لا يمكن تعديله بسهولة، بل يحتاج إلى اكثرية موصوفة لذلك، وهذا صعب المنال. فلا يمكن مثلا للسلطة المركزية في ظل النظام الفدرالي تعديل هذه الصلاحيات على هواها وتقليصها لبعض الوحدات او تقويتها للوحدات الأخرى. وهذا الأمر يتناقض مع حالة اللامركزية الإدارية حيث تبقى السلطة المركزية صاحبة القرار في تعديل وتغيير صلاحيات المناطق كما ترتئيه، وتبقى هذه الصلاحيات الدستورية المكرسة للوحدات بموجب القانون، لا الدستور، غير مستقرة، ومعرضة للتعديل بحكم اهواء اية اغلبية نيابية مغامرة.
لا شك في ان التوتر الطائفي في لبنان حفّز كل انواع التدخلات السياسية والعسكرية، التي ضربت عرض الحائط مبدأ الحياد الذي يشكل اليوم خشبة الخلاص في لبنان بعد إستعادة السيادة اللبنانية وإعتماد الفدرالية. إلا إن الإكتفاء بمعركة السيادة دون سواها لم يعد يصلح في لبنان. لقد سبق وتحرر اللبنانيون من العثمانيين مع نهاية الحرب العلمية الأولى و منالفرنسيين عام (1943) ومن الفلسطينيين عام (1982) ومن السوريين عام (2005) دون التفكير لاحقا، لا بالحياد ولا بآلية حكم جديدة لإدارة التنوع، فتكررت الويلات مجددا ولا تزال حتى اليوم. يستفاد إذا من ذلك ان معركة السيادة غير المقترنة بالحياد وبالفدرالية لتنظيم وإدارة التنوع لا يجدي نفعا. اما نظرية تطبيق إتفاق الطائف، فلا تصلح ايضا لعدة إعتبارات: (1) تيبن عبر التجربة إنه مجرد اتفاق سياسي مرحلي وضع اصلا خارج لبنان من قبل دول اجنبية ومحلية، لتمرير مرحلة ليس إلا، وهو اصلا فاقد لشروطه القانونية الأساسية و الشكلية ولم يستطع القيمون عليه تطبيقه لفترة ناهزت الثلاثين عام، وبالتالي لا نرى ما هو الطارىء الجديد الذي تحقق اليوم والذي سوف يدفع بإتجاه تطبيقه في هذه المرحلة بالذات، و(2) لا ينص هذا الإتفاق على الحياد الذي يعتبر المدخل الإلزامي الوحيد للحل الدستوري الضامن للإستقرار في لبنان.
من هنا، لا بد من تقييم الوضع اللبناني من منظور مقارن لنرى كيف تم تجاوز الإختلافات النابعة عن التعددية المجتمعية في العالم. فلبنان هو البلد الوحيد المكون من مجتمع تعددي والذي لا يزال قابعا تحت وطأة النظام المركزي الصارم، في حين ان القاعدة العامة تنص على خلاف ذلك: المجتمعات التعددية تعتنق الأنظمة الفدرالية، وليس العكس. إذا لبنان هو الإستثناء، وهذا غير مبرر، لا سيما ان التجربة التاريخية لصيغته الدستورية اثبتت عن جدارة فشلها. وبالفعل، لقد وضعت المنظمات الدولية وحكومات بعض الدول عدّة حلول من اجل تجنّب التوتّر بين الطوائف، وتحقيق النموّ الإجتماعي والإقتصادي والسياسي في المجتمعات التعددية، إلا انها باءت جميعها بالفشل، بإستثناء النموذج الدستوري الفدرالي المقترن بالحياد، الذي يعيش في ظلّه اليوم اكثر من 40% من سكّان العالم، والذي اثبت عن نجاح مميّز في إدارة المجتمعات التعددية، وفي حل مشكلة التعايش بين الطوائف القومية والإثنية في 25 دولة، وذلك إنطلاقا من الإمارات العربية المتّحدة، العراق أخيراً، مرورا بسويسرا، بلجيكا، كندا، الولايات المتحدة الأميركية، الهند، والمانيا.
Mtv