الأزمة أنعشت مهنة التسوّل… وغياب تام للوزارات المعنية!
كتب أسامة القادري في “نداء الوطن”:
أرخت الأزمات المعيشية بأنوائها على مجمل الحياة، وفاقمت نسبة الفقر، ومعه ارتفع معدل المشردين والمعوزين، وعمالة الاطفال حتى أضحت ظاهرة “التسوّل” مهنة عند البعض وشبه طبيعية، ليستغل هذا الواقع المأزوم وتراخي القوى الأمنية في ملاحقة المتسولين، وغياب الجمعيات الإنسانية في معالجة بعض من جوانب هذه الظاهرة، لتسرح وتمرح عصابات واشخاص يشكلون نواة أساسية لإنتشار تسوّل الأطفال وذوي الإحتياجات الخاصة، ونساء وفتيات يقمن بالاحتيال على ربات البيوت لسرقتهن، وآخرين يحملون اكياس محارم او علب العلكة والبسكويت، ويلاحقون الأشخاص ويتوسّلونهم بأسلوب استعطافي طالبين شراء مما لديهم، أو المساعدة بـ”الف ليرة”.
هكذا يبدو المشهد العام في البقاع الأوسط بدءاً من ساحة شتورا، وعلى طرقات برالياس الدولية والفرعية وسوقها التجاري، وعلى طول خط المصنع وطريق تعلبايا زحلة الرئيسية وفي قب الياس، وأمام دور العبادة والسوبرماركات والمؤسسات التي تشهد ازدحاماً وعند إشارات المرور. هذه الظاهرة أساساً كانت موجودة في البقاع منذ ما قبل الأزمة السورية، من قبل اشخاص كان يطلق عليهم إسم “النَوَر” اتخذوا من منطقة ديرزنون الفاصلة بين برالياس وعنجر “مستوطنتهم”. بعدما قدموا من حلب وحمص بموجب تصاريح خاصة بهم يعبرون بموجبها الحدود الأردنية والعراقية والسورية والتركية واللبنانية كـ”غجر رحّل”.
الى أن نال بعضهم الجنسية في منتصف التسعينات، وتحوّل جزء منهم الى العمل في الزراعة ورعي الماشية بعدها تراجعت الظاهرة مع اجراءات القوى الامنية في منع التسوّل، واذ تعود بشكل ملحوظ إثر الأزمة السورية مع النازحين الى لبنان. ومنذ نحو سنة بعدما سلك لبنان الطريق الى “جهنم”، زادت الحالة عن حدها وتحولت الى “مهنة” مع انعدام فرص العمل وتضييق الحبل حول “خناق” المواطن، ليدخل اللبناني شرنقة الجوع والعوز، ويخرج بعض الاطفال والنساء طالبين “الإحسان”، كما زادت حالات التسوّل عن النازحين السوريين، الاطفال واصحاب الإعاقات الذين يستغلونهم. عصابات واشخاص خارجون عن القانون.
منذ ساعات الصباح الباكر يتجمع في ساحة شتورا العشرات من الاطفال والنساء، وما أن تدب الحركة وتفتح المحلات حتى ينطلقوا بجميع الإتجاهات كل يفتش عن هدفه عسى يأتي بكفاف يومه.
شاهد طفل سوري نازح من ريف حمص لا يتجاوز عمره العشر سنوات، يحمل بيده بضعة “الواح” بسكوت يلاحق الفانات عند موقف شتورا الموحد، ويترجى الركاب لأن يشتروا منه، يروي ان والده من يجبره يومياً على الخروج للتسوّل، يتحدث بلكنته السورية الحمصية، ان اباه تزوج إمرأة ثانية، يضربه يومياً عندما يخرج في الصباح الباكر وعندما يعود.
يحكي بغصة “أبوي يضربني الصبح لقوم ويضربني المسا إذا مو عامل 15 الف ليرة، كمان بيضرب اختي الكبيرة 14 سنة اذا مو عاملة 25 الفاً”.
فيما انيس إبن الثانية عشرة من عمره، لبناني يبيع اكياس المحارم، يبدو أنه كما باقي الاطفال المشردين، فكلامه يوحي أنه تخطى الطفولة من دون ان يعيشها، يقصد المكاتب ليبيع ما لديه، رافضاً تلقي مال “الشفقة”، يقول انه يتيم والده توفي بحادث سير منذ ست سنوات، ويعتبر نفسه مسؤولاً عن أسرة مؤلفة من ثلاثة أشخاص، قال انه قبل سنة كان يعمل بموقف لأحد المطاعم في عنجر،”ومن وقت كورونا سكر المطعم وقفت شغل وما في حدا يساعدنا الشغل مش عيب”.
“جمهورية” هكذا اسمها صبية تقيم في مخيم تل سرحون، لا تخفي أن الوضع العام تغير، ولم يعد انتاجها هذه الايام كما كان قبل سنة ونصف، تقول “كانت الالف ليرة الها قيمة شوي، اليوم العشرة آلاف ليرة ما يساوو اللي كانت تساويه”، لتردف ان المواطنين الذين يتحسنون عليها اوضاعهم اختلفت وتراجعت، قالت “الموظف اللي كان يدفع الف ليرة ما عاد قادر يدفع اليوم”.
اما يزن وضعه مختلف عن انيس وساهر، لكونه يعمل لحساب شخص أطلق عليه إسم “حيّان”، ليستدرك ويقول ان أسمه غير حقيقي، يشرح أنه ينقلهم من مخيم “النوَر” في ديرزنون الى مفرق المرج ومفرق الكسكادا مول والى شتورا صباحاً، يؤمن لهم أكياس المحارم والبسكوت واسطوانات الاغاني، وقناني المياه الباردة وغالونات مقصوصة تستعمل لمسح زجاج السيارات، يقول “ان بعض الاطفال ينامون عنده، أما الآخرين يتفق مع اهاليهم بنسبة 50 % مما ينتجون يومياً لكونه هو يؤمن لهم مستلزمات انتشارهم عند المؤسسات ويعمل على مراقبتهم وحمايتهم طيلة اوقات “الشغل”.
فيما اصحاب المحال والمؤسسات التجارية والعاملون فيها وسائقو الفانات والسيارات العمومية، لا يخفون امتعاضهم من زيادة حالات التسوّل بإعتبارهم انها اصبحت “مخيفة” ولم تعد مساعدة سائل، بل تحوّلت الى حالة ملحة في ازعاج الزبائن والمواطنين الذين اصبحوا يتساوون في الفقر والعوز مع هؤلاء المتسولين.
فيختصر احد زبائن محل الهواتف جوابه لسائلة “متسولة” تطلب مساعدة “من مال الله” مرفقة بدعاء لأن يطيل في عمره وعمر أولاده، وهي تحمل طفلاً في جرابٍ على ظهرها، رد الرجل بصوت مكسور “اذا شحذتك.. أنا مَن بشحذني ويربي ولادي معاشي صار 80 دولاراً؟ “.
رئيس اتحاد بلديات البقاع الاوسط محمد البسط، يؤكد لـ” نداء الوطن” ان البلديات تتلقى شكاوى مواطنين جراء تفاقم هذه الظاهرة التي يختلط فيها “الامني بالانساني” لا شك أن الازمة الاقتصادية ساوت الناس ببعضها، ونتجت عنها مشاكل اجتماعية كبيرة، واعرب عن قلقه من ارتفاع نسبة الحوادث الناجمة منها، قال “هناك أشخاص يقصدون المنازل ويطلبون المساعدة، فتتعرض صاحبات وربات المنازل للسرقة ولعمليات احتيال”، يجد البسط ان هذه الظاهرة مشكلة اجتماعية وتفاقمها مقلق، وليس سهلاً على شرطة البلدية ان تضبط هذه الحالات لكون المتسولين يقطنون في مناطق متفرقة، وبعضهم ليس لبنانياً، يحتاجون الى قوى امنية لديها الأوامر بالتوقيف”. وختم البسط “المطلوب اليوم التشدد من قبل القوى الأمنية في ضبط حالات التسول التي خرجت عن المعقول، واصبحت آفة اجتماعية”، كما طالب وزارة الشؤون الاجتماعية لمساعدة الاسرة اللبنانية الاكثر فقراً، ومنظمات المجتمع المدني، والمنظمات الانسانية المحلية والدولية معالجة التسول لدى المواطنين السوريين”.
بدوره مصدر أمني شرح لـ” نداء الوطن” ان حالة التسوّل لم تعد جنحة جرمية، بقدر ما هي آفة اجتماعية تشوّه الصورة المجتمعية، وقال “سابقاً كنا نلاحق المتسولين ونحاول ان ننهرهم من دون ان نوقفهم، أما اليوم لا توجد قرارات صادرة من القضاء، او صادرة من المديرية لردع مثل هذه الحالات، الا بحال كانت تسبب جرائم قتل وسرقة ونشل، وصدم وقال “المعالجة ليست في الامن، انما بالامن المجتمعي، بقدر ما هي معالجة اقتصادية اجتماعية، وتوفير فرص عمل للحد من الانحلال والانحراف”، وتابع “لان توقيف المتسولين أثبت تاريخياَ انه ليس عملاً معالجاً، إنما يفاقم المشكلة ويزيدها انحرافاً”. واردف المصدر “كثيراً ما ذهبت حياة اطفال في حوادث صدم نتيجة انتشارهم عشوائياً على الطرقات وفي الاماكن المزدحمة، المطلوب اليوم تضافر جهود وزارة الداخلية والشؤون الاجتماعية وجمعيات محلية ومنظمات دولية للمعالجة ولحماية الاطفال، لأن الإحصاءات في قوى الأمن الداخلي تبين ان أكثر من 70 % من أطفال الشوارع يقومون بأعمالٍ مخالفة للقانون. وقالت إحدى الدراسات أن اكثر من 4000 طفل يعيشون في الشوارع .