على من انتفضت نقابة المهندسين؟
كتبت كارين عبد النور في “نداء الوطن”:
«النقابة تنتفض»، أم هي لم ولن تنتفض؟ هي المجموعة التي سجّلت فوزاً ساحقاً في وجه أحزاب السلطة في تموز 2021، وهلّل لها أهل الثورة والتغيير على السواء، آملين بأن تستعيد نقابة المهندسين دورها الفاعل بقيادة نقيب انتُخب من رحم ثورة تشرين. لكن هي نفسها المجموعة التي لم تكتمل «انتفاضتها» ومُنيت بنكسة خلال انتخاب أعضاء جدد فيها في نيسان الماضي. فبراثن السلطة عادت لتتحكّم بكثير من مفاصل القرار هناك في ظل إنكار شبه تام، من قِبَل من تبوّأوا المسؤولية، للدور المنوط بهم وهو النهوض بالنقابة واقتلاع ما تيسّر من مكامن الفساد فيها. هذا أقلّه ما يظهر للعيان إلى أن يأتي من يُثبت العكس.
ماذا يحصل داخل نقابة المهندسين، مِن ملف رسوم الاشتراكات وملف الاستشفاء إلى التوظيفات والمحسوبيات؟ ماذا عن تقاعس يكبّد صندوق النقابة الملايين لا بل المليارات؟ ماذا عن الملفات المخفية والتدخّلات السياسية وتحكّم أحزاب السلطة بالقرار؟ أين النقيب عارف ياسين الذي حاولت «نداء الوطن» التوجّه إليه كما إلى بعض أعضاء المجلس النقابي بتلك الأسئلة، لأكثر من شهر، فكان التجاهل سيّد الموقف والالتزام بالصمت الإجابة الوحيدة؟ لِنَدع التفاصيل تتكلّم.
نقص في الخبرة وتجاوز للقوانين
المهندسة ميرنا عبدو، المطّلعة على شؤون النقابة، اعتبرت بداية في حديث لـ»نداء الوطن» أن زيادة رسوم الاشتراكات بديهية لتمكين النقابة من تسديد مصاريفها في ظل غلاء المعيشة، لا سيّما وأن الرسوم الحالية، مُحتسبة بالدولار، هي أقلّ بكثير من تلك التي كانت تتقاضاها النقابة ما قبل الأزمة. أما في ما يخصّ ملف التأمين الصحي، فَمِن الطبيعي تقاضي المبالغ بالدولار كون المستشفيات تتقاضى بالمثل أيضاً، على حدّ قول عبدو.
ما المشكلة إذاً؟ «القرارات محقّة بالمطلق لكنها اتُّخذت بطريقة خاطئة. فخلافاً، مثلاً، للانتقادات التي كانت تُوجَّه للمجالس السابقة بخصوص رسوم البناء والاشتراكات، وبعضها من النقيب الحالي وأعضاء المجلس، لدينا خشية من انعكاس الرسوم المقرّة من قِبَلهم حالياً على حجم مساحات التراخيص المتوقّع تسجيلها لدى النقابة هذا العام»، كما تشرح عبدو.
أزمة المجلس الحالي تتمحور في جزء منها حول عدم تمتّع الكثير من أعضائه بالخبرة النقابية الكافية، ما أدّى إلى تجاوزات حصلت داخله على صعيد اتخاذ القرار. الأكثرية لا نشاط نقابياً سابقاً لها ومعظم الأعضاء تمّ اختيارهم بناء على عواطف معيّنة عقب ثورة تشرين وانفجار 4 آب. وتشير عبدو: «حين يبدأ المجلس تخطّي القوانين، حتى في أصغر الأمور، فهو يكون قد شرع بسلوك الطريق الخطأ».
من جهة أخرى، تعتبر عبدو أنه «كان للنقابة، رغم الصعاب، القدرة على القيام بخطوات إنقاذية تحميها والمهندسين، فثمة سُبُل دوماً لإيجاد الحلول بدل الوقوف عاجزين عن المواجهة». على سبيل المثال لا الحصر، وبعيداً عن الولاءات الحزبية والانتماءات السياسية، كان بإمكان النقيب دعوة النواب المهندسين الذين ينتمون إلى النقابة، وعددهم ليس قليلاً، لتقديم اقتراح قانون حماية أموال النقابة داخل المجلس النيابي ودعوة نقابات المهن الأخرى للتصرّف بالمثل.
عبدو ذكّرت المجلس النقابي ببرنامجه الترشّحي الذي طالب من خلاله بالإفصاح عن محاضر الجلسات وعدم إبقائها سرية، سائلة إياه عن الأسباب التي تحول دون السماح للأعضاء بالاطلاع على أي معلومات لمواكبة العمل والثغرات ومحاولة معالجتها، مضيفة: «في ظل الظروف العصيبة، يجب تضافر جهود المهندسين بغض النظر عن انتماءاتهم السياسية لتحييد النقابة عن انعكاسات الأزمة الحادة وأتمنى على النقيب دعوة أصحاب خبرات العمل النقابي لورشة عمل داخلية تكون غايتها الأساسية تحييد ما أمكن من صناديق النقابة حفاظاً على صمام أمان ما يزيد عن 60 ألف مهندس وعائلاتهم وضماناً لاستمرارية النقابة
من يحافظ على أموال النقابة؟
ننتقل إلى ممثل الهيئة الإدارية لتجمّع مهندسي لبنان، المهندس محمد الجباوي، الذي تطرّق بإسهاب في لقاء مع «نداء الوطن» إلى مزيد من الملفات الحساسة.
لا شك أن المشكلة الأساسية تتمثّل بحجز أموال النقابة في المصارف، والتي تصل قيمتها إلى حوالى 450 مليون دولار، ما يضع واقع ما لا يقلّ عن 60 ألف مهندس وعائلاتهم في دائرة الخطر. «لا مانع من اتّباع المجلس الحالي المسار القانوني إنما يجب ممارسة ضغط جدّي على المصارف. نصحنا النقيب مراراً وتكراراً بالتوجّه إلى المصرف المركزي مع الفريق القانوني والتفاوض معه كما تشكيل قوة ضغط لتحرير أموال النقابة المحجوزة، لكن دون جدوى»، يقول الجباوي.
فلنبدأ بملف رسوم معاملات البناء والتي، وفقاً للموازنة العامة للسنة المالية 2022-2023، تشكّل ما نسبته 19% من الإيرادات العامة لنقابة المهندسين. يشرح الجباوي في هذا الإطار أنه لم يتم اتخاذ أي قرار إداري للتوقف عن استلام معاملات البناء على التسعيرة القديمة منذ الاجتماع الأول لهيئة المندوبين لإقرار الموازنة وحتى تاريخ 21 نيسان 2022، وذلك بسبب التدخلات السياسية. هذا الاستهتار لناحية اتخاذ القرار أدّى إلى تحرّك جميع من يريد تقديم معاملات لتسجيلها وفقاً للأسعار القديمة والتي تختلف إلى حدّ كبير عن الأسعار المقترحة للرسوم في الموازنة.
ويضيف الجباوي: «في الموازنة، ذُكر أن الإيرادات المحقّقة من هذه المعاملات تُقدَّر بحوالى 8.5 مليارات ليرة (أي 380,038 دولار على سعر صرف 22,500 ليرة). بينما لو تم اتخاذ قرار استلام المعاملات وفقاً لمعدّل سعر المتر المربّع في الموازنة الأخيرة المقرّة، أي 33,000 ليرة للدولار الواحد، لكنّا وصلنا الى إيرادات محقّقة بقيمة تقارب 55.5 مليار ليرة. هذا التأخير أدى إلى خسارة صندوق النقابة حوالى 47 مليار ليرة من الإيرادات».
والحال أن الإيرادات تلك خسرتها جميع الصناديق بما فيها التقديمات الاجتماعية التي تمرّ بأزمة كبيرة، ما انعكس على رواتب المتقاعدين بحيث لم تعد تكفيهم لأكثر من عدة أيام. لذا يضع مهندسون كثر السؤال التالي برسم النقيب: ألم يحن الوقت لقطع دابر التساهل في اتخاذ القرارات الإدارية داخل النقابة، واتحاد الجميع حماية لمكتسبات المهندسين بغض النظر عن المرجعيات والانتماءات السياسية؟
تبديد مدّخرات وشطب الملايين
إلى ملف الاستشفاء الشائك هو الآخر. فوفقاً للموازنة المالية للعام 2022-2023، قُدّرت كلفة استشفاء المهندسين وعائلاتهم بحوالى 37,500,000 دولار. ولتغطية هذا المبلغ وتخفيف أعباء رسوم الاشتراك على المهندسين، جرى دعم صندوق الاستشفاء بموجب شيكات مصرفية من حسابات النقابة في المصارف بمبلغ قدره 42,500,000 دولار. واتُّفق شفهياً مع المستشفيات، قبل الجلسة الأولى لهيئة المندوبين لمناقشة الموازنة أواخر آذار الماضي، على أن تغطّي هذه الشيكات المصرفية مبلغ 10 ملايين دولار من قيمة فواتير الاستشفاء، بدلاً من 42 مليوناً ونصف المليون دولار. أما بقية المبلغ المطلوب لتغطية كلفة الاستشفاء، فيُدفع كرسوم من المهندسين وعائلاتهم على أساس سعر «صيرفة»، رغم سوء أوضاعهم المعيشية وتراجع وتيرة العمل. ولهذا التدبير، بحسب الجباوي، تداعيات كارثية:
أوّلها، تبديد مدّخرات المهندسين من خلال شطب 32,500,000 دولار من حسابات النقابة. «مسار شطب الودائع هذا لتمويل الاستشفاء سيوصل النقابة الى الإفلاس التام في القريب العاجل. وحينها ستتوقف كل الخدمات من استشفاء وتقاعد وغيرهما»، كما يتوقّع الجباوي.
ثانيها، عدم إمكانية الاعتماد على الاتفاق الشفهي مع المستشفيات، لأن التدبير المذكور لا يزال ضبابياً على صعيد المعلومات المتعلقة بتقلّب السعر المتّفق عليه مقارنة بالقيمة السوقية للشيكات المصرفية، كذلك الحال بالنسبة لاحتمال عدم التزام المستشفيات بالاتفاق. هذا إضافة إلى أن المعلومات المتعلقة بقبض رسوم الاستشفاء من المهندسين وعائلاتهم على أساس سعر «صيرفة» لا تزال غير واضحة. فهل سيكون باستطاعة النقابة على مدار السنة المالية تحويل المبالغ وفقاً لسعر الدولار عند القبض أو وفقاً لسعر السوق السوداء؟
ملف آخر يوضع في عهدة النقيب. فهل من توضيح لما تقدّم، وهل للنقابة أن تستمرّ في استنزاف حساباتها بهذا الشكل دون رقيب ولا حسيب ولا حتى خطة تحمي مستقبل المهندسين؟
معلومات قليلة وتوظيفات كثيرة
المجلس الحالي في موقف لا يحسد عليه، يقول العارفون. لكن حين خيضت معركة انتخاب النقيب ومجلس النقابة والمندوبين كان معلوماً أن مستقبل النقابة على المحك. وعندما قرّرت «النقابة تنتفض» دخول غمار المعركة الانتخابية، كان على رأس برنامجها الشفافية في العمل. في هذا السياق، يلفت الجباوي إلى أن ملفات الفساد مكدّسة منذ ولاية النقابات السابقة لكن المجلس الحالي لا يسمح بتسليم أي ملف للاطلاع عليه: «توفّر المعلومات صعب جداً رغم أنه من حقنا الحصول على المستندات. حتى المجلس لا قدرة لديه للحصول على كافة المعلومات لأن الموظّفين المحسوبين على الأحزاب داخل النقابة يحولون دون ذلك. لذا هناك ملفات قديمة لم يتمكن أحد من الاطلاع عليها حتى الآن».
ما بات واضحاً هو أن أحزاب السلطة التي سيطرت على النقابات السابقة لم تستثمر أموال النقابة الموجودة في البنوك. جلّ ما كانت تقوم به هو الاستفادة من الفوائد المصرفية دون اللجوء إلى تحقيق أي مداخيل جديدة. وبحسب المعلومات، حتى الاستثمارات القليلة التي قامت بها، مثل شراء أرض في الدامور بقيمة 20 مليون دولار، تبيّن لاحقاً أن مشاكل قانونية تشوبها، كما شراء مبانٍ للنقابة في النبطية وزحلة بتكلفة حوالى 5 ملايين دولار للمبنى الواحد، كانت مجرّد صفقات مقابل عمولات. ثم هناك فضيحة التوظيفات العشوائية التي أدّت إلى تضخّم في عدد الموظفين. فكل نقيب كان، باتفاقات مع أطراف سياسية تبعاً لانتمائه الحزبي، يقوم بتعيين أفراد مقرّبين ما كبّد النقابة رواتب خيالية تتراوح بين 16 و45 مليون ليرة للموظف، أي ما يضاهي أو يفوق راتب نائب أو وزير.
سألنا الجباوي عن الحل، فأكّد ضرورة إعادة هيكلة الجسم الإداري إذ لا داعي لهذه التخمة في التوظيفات. كما شدّد على اعتماد المكننة في العمل مشيراً إلى وجود برنامج جاهز ذي صلة كلّف سابقاً 350 ألف دولار وموضوع «على الرف» لوجود جهات سياسية مستفيدة. هذا إضافة إلى ضرورة التركيز على الآفاق الخارجية: «النقيب الحالي هو رئيس اتحاد نقابات المهندسين العرب ورغم ذلك لا تعاون مع الخارج، تحديداً دول الخليج. فهناك تخوّف من أي خطوة جديدة».
عودة الخطوط الحمر
في معلومات أخرى خاصة لـ»نداء الوطن»، يتواجد إداري داخل النقابة محسوب على أحد الأحزاب يسعى باستمرار لعرقلة عمل النقيب، كما يقوم بتوجيه الموظفين إلى إعلان الإضراب بشكل دوري سعياً منه لتشويه صورة النقابة. أما انتماؤه السياسي، فيجعل من إقالته خطاً أحمر لا يجرؤ أحد على تخطّيه. باختصار، تنقسم النقابة بين طاقم قديم يدور في فلك الأحزاب وبين نقيب ومجلس لا حول ولا قوة لهما. ورغم التقصير الذي يتحمّل النقيب وأعضاء المجلس قسماً كبيراً منه، إلا أن المسؤولية لا تقع على عاتقهم حصراً. فالجميع تسبّب بطريقة أو بأخرى في كل ما آلت وستؤول إليه الأمور.
الجباوي يختم قائلاً: «نحن انتخبناكم ولنا الثقة الكاملة بكم، لكن أن تصل الأمور لأن يكون لعملكم نتائج عكسية ومردود سلبي علينا، فهذا غير مقبول. أنتم مفوّضون وتمثّلون المهندسين وموكلون إنقاذ مؤسستهم. نتمنى أن تكونوا على القدر الكافي من المسؤولية وتتعاونوا معنا بشفافية. المواجهة ليست سهلة، فالأحزاب والتدخلات السياسية متجذّرة داخل الجسم النقابي، لكن لصاحب الحق أن يصل الى حقّه. حاولنا الاتحاد والتكاتف سويّاً لكن يبدو أن هناك من يتحكّم بتلابيب القرار داخل النقابة ويعرقل أي طرح إيجابي يمكن أن يخدم مصلحتها».
فهل من آذان «منتفضة» صاغية؟