البلد “مفلوج” .. والأمل مقطوع!
كتب نبيل هيثم في “الجمهورية”:
البلد «مفلوج» بالكامل، والأمل مقطوع بإمكان إحداث نقلة نوعية توقفه على رجليه من جديد.
ثمة سؤال يتسلّل من خلف هذا المشهد: كيف يستمرّ لبنان مع وضع كهذا، إبتلعت فيه الأزمة كل مقدّراته، والسياسة حوّلته إلى رمال متحركة ابتلعت الحكومة؟
ثمة من يقول البلد: «باقي» و«ماشي» .. جيّد! .. إنما كيف، وإلى أين، وإلى متى؟
الجواب الطبيعي يرد على لسان مرجع مسؤول بقوله: «إنّ لبنان يستمر بالصدفة!. والمفجع في هذه الصدفة انّ أحداً لا يملك اجوبة عن الكمّ الكبير من الأسئلة المقلقة التي تقض مضاجع كل اللبنانيين. وكأننا اصبحنا نعيش في عالم المجهول، وصرنا محكومين للتيه والضياع»..
على انّ ما هو أصعب من هذا «المجهول» وما يخبئه لنا، يضيف المرجع عينه، «هو «المعلوم» الذي زرع نبتة الشوك في جسم هذا البلد وأدمى كلّ اللبنانيين بأزمة اقتصادية ومالية وحياتية بات الخروج منها ضرباً من المستحيل، وألقى بهم في رمال سياسية متحركة أكلت الدولة، وابتلعت الحكومة، وها هي تحضّر لابتلاع الاستحقاق الرئاسي وإلقاء البلد في أحضان شبح الفراغ الحكومي والرئاسي معاً».
ولكن من هو هذا المعلوم؟ يسارع المرجع إلى جواب لا يبرئ احداً من المكونات، من دم البلد الذي أهدروه. ويقول: «هذا المعلوم هو كناية عن غراب بجناحين، جناح مكونات سياسية حملتها الظروف لتمسك بقرار البلد وتتحكّم به رغماً عنه، وترفض ان تعترف بفشلها، بل ما زالت تريد ان تظفر بكل ما يحقق لها امتيازاتها ويخدم مصالحها وحساباتها، حتى ولو كانت كلفة ذلك ان يجرف الطوفان البلد، كما هو حاصل اليوم».
وأما الجناح الثاني لهذا الغراب، يتابع المرجع المسؤول، «فهو هذا الخليط من مكوّنات سياسية وحزبية لا مثيل لها في كل دول العالم. في المبدأ التنوّع السياسي يفترض انّه يشكّل حيوية وغنى للبلد وتنافساً على خدمته وإعلاء شأنه، الّا في لبنان، فهذا التنوّع ما هو الّا تناقضات وعداوات وأدوات في صراع أجندات ونوايا إعدامية لبعضها البعض، خدمة لهذا الطرف الخارجي او ذاك. فكيف يمكن ان تقوم قائمة للبنان، ويصل إلى برّ الأمان أمس واليوم وغداً، مع مكونات كهذه، لا تربطها علاقات صادقة ببعضها البعض، بل علاقات تحكمها صور كاريكاتورية وهزلية وتوازنٌ مفقود، وانسجامٌ وهميّ وتضامنٌ مدَّعى، وتكاذُب علنيّ لا مثيلَ له، وكمائن على كل الاكواع. يتفرقون ويتكتلون على بعضهم البعض، ويجتمعون فقط ليكمنوا ضدّ بعضهم البعض. علّة هذه المكونات انّها ثقبت ذاكرتها حتى لا تتذكر التجارب المرّة التي مرّ فيها لبنان جراء هذا المنحى الذي يضحّي ببلد وشعب من أجل حفنة من الدولارات»!
في موازاة هذا السرد، ثمة من يقول إنّ المرحلة الحالية، هي مرحلة انتقالية، ولكن إنتقالية إلى ماذا؟ وإلى أين؟!
في البلد تتصارع مقولتان، إحداهما تقول بأنّ الـ 104 ايام المتبقية من ولاية الرئيس ميشال عون، هي العمر المتبقي لخاتمة أحزان اللبنانيين، وبعدها اعتباراً من 1 تشرين الثاني 2022، سيدخل البلد في عصر رئاسي آخر، وستشرق الشمس من جديد في لبنان وتنفرج الآمال والأسارير؟!
المقولة الثانية مناقضة للأولى، تحسم الفشل في تأليف حكومة خلال الفترة الفاصلة عن انتهاء ولاية عون، وتنعى انتخاب رئيس جديد للجمهورية، والبلد سيتجاذبه ضاغطان يكبسان عليه حتى الاختناق، يتمثل الاول، الأزمة التي ستنسحب بكل أثقالها المالية والاقتصادية والمعيشية إلى ما بعد انتهاء الولاية، وما قاساه اللبنانيون من مرارات، يكاد لا يُذكر امام ما هو آتٍ عليهم. واما الثاني فيتمثل في شلل تام للدولة وخدماتها، وتعطيل كامل، وهريان اضافي في الإدارات والمؤسسات، ويُضاف ذلك إلى دخول البلد في حال من فقدان التوازن السياسي، في ظلّ فراغ رئاسي وحكومي، وإرباك حقيقي حول كيفية ادارة الدّولة مع حكومة تصريف اعمال؟
على هاتين المقولتين يجيب المرجع عينه بقوله: «كلاهما يتمتعان بصلاحية إسقاطهما على مشهد ما بعد ولاية الرئيس عون. فثمة من سيفرح لخروجه من بعبدا، وثمة من سيحزن لهذا الخروج، وأما الثابت الوحيد وهو انّ الأزمة ستلازم اللبنانيين بكل أعبائها ومصاعبها طالما أن لا حلّ ممكناً حتى الآن. وبالتأكيد سندخل في صعوبات اكبر إن بلغنا نهاية الولاية بلا حكومة وبلا انتخاب رئيس جديد للجمهورية. لا اقول انّ الحكومة والرئيس الجديد يملكان العصا السحرية لإحداث نقلة انقلابية من الأزمة الى الانفراج الفوري، لأنّ الفراغ في السلطتين الأولى والثالثة سيشرّع الباب على احتمالات غير محسوبة، وقد يطال بعضها شكل وأساس النظام اللبناني وجوهر المعادلة الداخلية».
ولكن وسط الصورة القاتمة والانسداد الكلي للأفق اللبناني، هل ثمة ما يمكن ان يؤدي الى إحداث وميض في أفق هذه العتمة؟
يجيب المرجع بالتأكيد على ما يلي:
«اولاً، لا استطيع ان ادّعي التفاؤل، ولكن يمكن ان اغيّر رأيي إذا ما رأيت بأم العين أنّ مكونات البلد، بدأت تشعر فعلاً بوجع البلد والناس، فساعتئذ استطيع ان اقول انّ في امكاننا ان نخرج من جهنم الأزمة بفروعها السياسية والاقتصادية والمالية والحياتية.
ثانياً، يمكن ان يُنار بعض من عتمة النفق، عندما تتوقف بعض الأصوات عن الاستقواء بعضلات غيرها من داخل الحدود او خارجها، وعن التبرّع نيابة عن الآخرين بترويج سيناريوهات حربية خبيثةٍ. وانّ القرار لن يطول أوانه ويُتخذ للقضاء على «الأعداء الداخليين». من دون ان تحدّد من أين سيصدر هذا القرار أكان من الصديق او غير الصديق؟
ثالثاً، بات محسوماً انّ «المعايير» والشروط، هزمت إرادة تأليف حكومة جديدة في هذه المرحلة، وبالتالي، أي كلام عن حكومة هو كلام فارغ لا قيمة له، وتضييع لوقت ضائع اصلاً. ومن هنا يقف لبنان امام امتحان جدّي لجميع مكوناته السياسية والروحية بعد ستة اسابيع، لزرع النبتة التي قد تشكّل اساساً لبدء مسار الانفراج، وإتمام الاستحقاق الرئاسي بالاتفاق على رئيس للجمهورية وانتخابه ضمن المهلة الدستورية، أي ما بين اول ايلول وآخر تشرين الاول. على ان تلي ذلك نقلة نوعية في إدارة الحكم، مختلفة تماماً عما شهدناه».
هل هذا ممكن؟
يجيب: «ممكن بالتأكيد.. فلقد شهدنا عهداً قدَّم نفسَه إصلاحياً وتغييرياً وإنمائياً وما إلى ذلك من صفات إنقاذية للوضع الداخلي، ونزلَ بقوّته كلّها ليشكّل قوّةَ دفعٍ على جبهة الإنجاز والتنشيط والتفعيل. والنتيجة شللٌ وجمود ولا ترجمة لهذه العناوين، وبدل الإنتاج الموعود يأتي التبرير بأنّ الإصلاح مستحيل في ظلّ الفساد وإرادات منعه، التي لخصّها شعار «ما خلونا». كما شهدنا حكومات توالت وقدّمت نفسها هي الأخرى على انّها خشبة الخلاص والمعبَر الآمن لاستعادة الثقة الداخلية وثقة العالم بلبنان. الّا انّها سرعان ما سقطت في الأداء والممارسة، إما لعجزها، او قصورها، وإما لضعفها وحبس نفسَها في التخبّطِ والإرباك، او لتعاليها على مبدأ المحاسبة والمساءلة والقفز فوق كلّ الشعارات والعناوين الإصلاحية، لتثبيت منطق المحاصصة والمحسوبيات والصفقات».
ويخلص إلى القول: «بالتأكيد انّ النقلة النوعية ممكنة، إن احسنا قراءة ظروف البلد وما يحيط به ويتهدّده، وإن بادرنا ولو لمرة واحدة، إلى اجراء قراءة نقدية لكل ما اقترفناه بحق هذا البلد منذ سنوات طويلة».