ماذا بعد طوفان البحر بالمهاجرين؟
كتبت نوال نصر في “نداء الوطن”:
قبل أن تطوف جثث «الفقراء المهاجرين» على «شط» طرابلس، وتنقلب محاولات النجاة- هرباً من عدمية الحياة الوجودية في بلدٍ مخلّع- وتتحوّل إلى موتٍ محتّم، لم نكن ننتبه إلى معاني جرائم الإتجار بالبشر. كنا نظنّ أن لبنان وسكان لبنان، ومن ينوون الهجرة من لبنان، لا يُشبهون المهاجرين «اليمنيين» و»العراقيين» و»السودانيين» و»الفلسطينيين» و»السوريين» وكل الشعوب التي تعيش رغبة العبور إلى الحياة، في مقلب آخر، ولو عاشت الخطر وفاض بها البحر ولفظها جثثاً… لكن، فجأة بتنا في الحضيض، وأصبح حال لبنان حالاً… وبحر طرابلس شاهد.
بدعوة من «وكالة الأمم المتحدة للهجرة- IOM»، إلتقى في القاهرة صحافيون من تسع دول عربية وأفريقية هي: لبنان، مصر، اليمن، السودان، تونس، البحرين، المغرب، الكويت والأردن حول طاولة واحدة، في ورشة عمل، تحاور فيها المشاركون حول المخاطر المرتبطة بالهجرة غير النظامية والإتجار بالبشر وممارسات الهجرة الآمنة.
نعم، اسمها الهجرة غير النظامية لا الهجرة غير الشرعية. فلنُصحح منذ البداية هذا المصطلح. تناقشنا حوله واقتنعنا بصوابية التسمية الجديدة حماية للمهاجر «لأن الهجرة بشكل غير نظامي لا تعفي الدول من واجب حماية حقوق المهاجر أما القول إن هجرته غير شرعية فمعناه أنه فاقد لأي حقوق». ثمة أخلاقيات في المصطلحات أيضاً. وثمة وجع كبير عند شعوبنا العربية والأفريقية. فهموم السودانيين همومنا. وهموم اليمنيين هموم السودانيين واللبنانيين والمغاربة والمصريين والأردنيين أيضاً وأيضاً.
نقل وإتجار
لم يقتصر حوار «الورشة» على «نقل المهاجرين» بل تضمن أيضاً الإتجار بهم. فهناك من يتربّصون لاصطياد ضحاياهم من الفقراء والبائسين. والضحايا يتوقعون أن تكون رحلتهم بداية لا نهاية. والسؤال البديهي في البداية: ما هو تعريف الإتجار بالبشر؟ إنه يتضمن تجنيداً أو نقلاً أو إيواءً أو استقبال الأشخاص، عن طريق التهديد واستخدام القوة أو غيرها من خطف واحتيال وخداع.
الصحافة رسالة. لكن، هناك قيم أخلاقية كثيرة يفتقدها صحافيون كثيرون. هذا الموضوع طرحته الدكتورة ميرفت أبو عوف التي تحدثت عن مفهوم القيم الأخلاقية والأخلاقيات المهنية. وميرفت هي شقيقة كل من الفنانين الراحلين عزت ومها أبو عوف- تناولت ميرفت بأسلوبها الإستثنائي «المبادئ والمعايير التي توجه الفرد وتضبط سلوكه في الحياة، وبينها المحبة والقدوة الحسنة والقصد الحسن والتمييز بين ما هو صواب وما هو خطأ وبين ما هو مقبول أو غير مقبول من حيث المهنة والمكان والزمان. كل ذلك قد لا يتحقق إذا لم يكن هناك ميثاق شرف إعلامي». الصحافة مسؤولية هذا ما خلص الجميع إليه. وهناك مبادئ خمسة للصحافة الأخلاقية: الحقيقة والدقة، الإستقلالية، الحيادية والنزاهة، المسؤولية والمساءلة، والإنسانية. نعم، هذا الملف إنساني أولاً وآخِراً.
من مصر قد نتعلم. هناك، تقدمت الدولة كثيراً في معالجة ملف المهاجرين. واليوم، يبدو أن أكثر 11 محافظة مصدرة للمهاجرين غير النظاميين في مصر هي: الشرقية، الدقلهية، القليوبية، المنوفية، الغربية، البحيرة، كفر الشيخ، الفيوم، أسيوط، الأقصر، والمنيا. والسؤال البديهي: أيّ طرق تعتمد في نقل هؤلاء المهاجرين؟ هناك سماسرة يقومون بتهريب الأشخاص، وفي التفاصيل، يتم الإتفاق على تجميع الأشخاص، ثم السير بهم في الصحراء أو سيارات الشحن ثم نقلهم في «زوودياك» او «فلوكه» الى حين وصولهم الى «عائمات الصيد» للإبحار بهم الى دول أوروبية أو تسليمهم الى مراكب تجارية. نتابع في التجربة المصرية. يعمد بعض المهاجرين الى الزواج من مواطنات بعض الدول الأوروبية وشرق اوروبا كي يحظى بوضع قانوني. في كل حال، التجربة المصرية تستحق الدراسة وهي نجحت في التعامل مع الملف بوعي كامل وتأسست اللجنة الوطنية التنسيقية لمكافحة ومنع الهجرة غير النظامية (غير الشرعية) والإتجار بالبشر رسمياً في 23 كانون الثاني 2017 بموجب قرار رقمه 192/ 2017.
نحن، في لبنان، نتناول الموضوع إنسانياً. ونتغاضى عن «العصابات» التي تعتمد هذا الملف للإتجار بالبشر وتحقيق أكبر العائدات المالية. ثمة سلبية في التغطية الإعلامية حول هذا النوع من الهجرة «الخلاصية الى البعض». ومن الأدلة البحثية التي ظهرت «ان وسائل الإعلام تربط الأخبار السيئة بالمهاجرين بصفة عامة حول العالم. والتغطية السلبية أكثر من ضعف المحتوى الإيجابي. والمصطلحات التي تستخدم حول الهجرة غالباً ما تساهم في خلق صور نمطية وسلبية عنهم. وكل ذلك سببه عدم وجود صحافيين مدربين تدريباً مهنياً لتغطية هذه القضايا بمعرفة وإدراك ووعي. وأكثر سلبيات التعاطي الصحافي مع هذا الملف هو استخدام مصطلحات غير دقيقة مثل «الأجانب» و»غير الشرعيين» وعدم التمييز بين طالبي اللجوء والمهاجرين واللاجئين والحقوق والحماية بموجب القانون الدولي. وبالتالي، يجب التبليغ عن هكذا قضايا كقضايا إنسانية لا «أزمات». مصطلح الأزمة يؤذي ولا يفيد. وما يفترض اعتماده منا جميعاً هو ضرورة الإبتعاد عن التهويل والإثارة في عرض الأحداث المتعلقة بقضايا الهجرة.
هناك آمر آخر لا نلحظه ونحن نتابع قضايا من يرمون أنفسهم في البحر ويطوفون بحثاً عن حياة. ثمة إتجار بالبشر يحدث. هناك من يسهلون هجرات كهذه في سبيل الإتجار بالأعضاء البشرية وإتمام زواج الصفقة والعمل القسري والإستغلال الجنسي لذا فلنقل بصوت عال: معاً ضد الإتجار بالبشر.
تميم اليان، وهو خبير في المنظمة الدولية للهجرة IOM، يتحدث عن التغطية الإعلامية السلبية لموضوعات الهجرة والإتجار بالبشر، حيث غالباً ما يُبرز الإعلام المعاناة والمأساة مرتكزاً على خطاب الهوية (نحن وهم) وعلى التمايز الثقافي والعرقي والديني. لذا المطلوب وبإلحاح التحول من القصص العاطفية الى القصص التي تتضمّن حلولاً وتحدّد المسؤوليات. وإنتاج القصص التي تضع المهاجرين في السياق الأوسع وتركز على مسائل السياسات. والسؤال الذي يجب أن نطرحه جميعنا على أنفسنا: هل تغطيتنا متحجرة في إطار واحد؟ هل يوصل هذا الإطار القصة كما هي؟ هل تغطيتنا تثير إحساساً سلبياً أم إيجابياً؟ هل نجحنا في كل ما قلناه وفعلناه في عكس الواقع المعقد لأشخاص يرمون أنفسهم في البحر في سبيل الخلاص من واقع مزرٍ؟
كل حياة مهاجر مهمة. فهل هناك من حفظ اسم «مهاجر» واحد نجح في الخلاص من فقره المدقع في بلادنا أو حتى أحد من حاولوا الهجرة وانتهى لقمة سائغة لأسماك وقروش؟
بربكم، هل تمّ القبض في لبنان على متاجر واحد، واحد فقط، بالبشر؟ هناك، في مصر قانون رقمه 64 صدر العام 2010 حدد في مادته السادسة عقوبة ذلك: يعاقب كل من ارتكب جريمة الإتجار بالبشر بالسجن المؤبد وبغرامة لا تقل عن 100,000 جنيه، إذا كان الجاني قد أسس أو أدار جماعة إجرامية منظمة لأغراض الإتجار بالبشر. وإذا ارتكبت الجريمة عن طريق التهديد، وإذا كان الجاني زوج المجني عليه (أو عليها) أو مسؤول عنه (أو عنها). وإذا كان المجني عليه طفلاً أو عديم الأهلية أو من ذوي الإحتياجات الخاص وإذا ارتكبت الجريمة بواسطة جماعة إجرامية منظمة». فماذا عمّن ينظم رحلات المهاجرين من لبنان الى العالم؟ هل أوقف أحد الفاعلين؟ هناك من قد يعتبر سؤالاً كهذا ساذجاً في دولة لا تحمي مواطنيها ولا المقيمين فيها فما لها ولهم إن رحلوا أو انتهوا طعاماً للسمك؟
هناك اتفاق عالمي من أجل الهجرة الآمنة والمنظمة والنظامية. وأحد أهدافه منع الإتجار بالبشر ومكافحته والقضاء عليه في سياق الهجرة الدولية. وما لا يعرفه كثيرون (ممن يتفرجون على رحلات الموت) أنها قد تتضمن جرائم الإتجار بالبشر التي هي إحدى أكثر الجرائم إدراراً للأرباح غير المشروعة في العالم. إنهم يربحون مبالغ طائلة مقابل مخاوف قليلة من الملاحقة القانونية. ويتضمّن هذا النوع من الإتجار تهريب المهاجرين وتدبير دخولهم غير النظامي الى دولة ليس ذلك الشخص من رعاياها أو المقيمين الدائمين فيها مقابل منفعة مالية.
أمر أخير لا يعرفه كثيرون وهو أن حالة تهريب المهاجرين يمكن أن تتحول الى حالة إتجار بالبشر. فالمهاجرون المهرّبون الذين يتم استغلالهم في أي مرحلة من العملية يمكن أن يصبحوا ضحايا إتجار بالبشر. المهاجرون إذاً، الذين وضعوا أرواحهم في مهبّ المجهول قد ينتهون ضحايا من نوع آخر. فيا لشدة قهر هؤلاء، او يا لجهلهم، في ملاطمة أمواج البحر!