كتبت زيزي إسطفان في “الراي”:
لم يجفّ في بيروت بعد، لا دم الجريمة الرباعية المروّعة ولا الأخبار الصادمة عن ملابساتها… أربع نساء (أم وبناتها الثلاث) قُتلن في كهفٍ، وكأن الزمن اللبناني عاد أدراجه إلى كهوف العصور الغابرة.
جريمةُ قتل النساء الأربع في أنصار، جنوب لبنان، هزّتْ البلاد من أقصاها إلى أقصاها وحفرتْ عميقاً في أسى اللبنانيين ومأساتهم المفتوحة وسط تعقُّب ما ينشر عن اعترافات القاتليْن اللذين خططا ونفّذا بدمٍ مسموم و… بارد.
وبعد نحو 48 ساعة على جريمة الكهف التي «أُعدمت» فيها ثلاث بنات بعمر الورد ووالدتهن، فُجع اللبنانيون من جديد بسقوط إمرأة أخرى مضرجة بدمها على يد شقيق زوجها لخلاف على الميراث، وهذه المرة في عكار في شمال لبنان.
هذه الفواجع المترامية، المتمادية، تُسَجِّلُ تزايداً، بحسب الإحصاءات التي ترصد الجرائم ضد الرجال والنساء على حد سواء في البلاد المكنوبة بالأزمات… ثمة مَن يعتقد أن الحَجْرَ خلف قضبان «كورونا» زاد من معدّلات العنف، ويسود إعتقاد أكيد ان إنهيار نظام عيْش اللبنانيين وسوء أحوالهم، فاقَمَ من العنف والجريمة.
قتْل الرجال ليس أقلّ مرارةً من قتْل النساء، فالجريمة جريمة مهما كانت تصنيفاتها أو هوية ضحاياها، لكن السؤال الذي لم يعد مألوفاً تجاهله هو لماذا استسهال قتل «شهرزاد» والتجرؤ على استباحة دمها.
ولعلّ الأشد إيلاماً من القتل هو الأسباب الكامنة وراء جرائم قتل النساء وطرق تعاطي الجهات المختصة مع هذه الجرائم. ففي مجزرة أنصار تم التبليغ عن اختفاء الأم وبناتها الثلاث في الثاني من مارس، إلا أن الأجهزة الأمنية لم تتحرك إلا بعد فترة من التبليغ عن اختفائهن، ولم تقم بالإجراءات الكافية للتقصي حول موضوع اختفائهن كونه وُضع في خانة المشاكل العائلية والهروب الطوعي، بل إن التحقيق الأولي الذي قادته قاضية لاحقاً خُتم في شكل مستعجل قبل استكمال كل الأدلة وأدى الى إطلاق سراح المشتبه به الذي تَبَيَّن فيما بعد أنه أحد القاتليْن. فهل ثمة استهتار في التعاطي مع الجرائم التي تطال النساء بات يجرّ إلى استسهال قتلهن تحت ذرائع كثيرة؟
يدفعن حياتهن ثمن الأحقاد و الأزمات
مَن يراقب الجرائم بحق النساء يجد أنها في غالبيتها عائلية، لم يتم إرتكابها مثلاً بهدف السرقة أو لأسباب إرهابية أو لدوافع جرمية مختلفة، بل تمت لأن الجاني «اختار» أن يصبّ أمراضه النفسية وأحقاده وضغوطه على أقرب الناس إليه. فالضحية هي الزوجة، الإبنة، الشقيقة، الحبيبة، الجَدة، أو أي من القريبات.
وعلى خلاف الجرائم التي تطاول الرجال نادراً ما يكون اختيار الضحية الأنثى لأسباب خلافية أو جرمية، بل ان المرأة تتحول ضحية لمجرد كونها موجودة في حياة الجاني وحاضرة لدفع الثمن. ففي مجتمعٍ تطغى فيه الذكورية، بدءاً من طبقته السياسية الحاكمة التي تُبْعِدُ النساء عن مراكز القرار وترفض إقرار قانون واضح وصريح يحميهنّ من العنف بكل أشكاله، وصولاً إلى سلطة أبوية متجذّرة تبرر الجرائم ضد النساء بالشَرَف، وإلى مجتمعٍ لا يتورّع عن تسميم سمعة الضحايا ويجد للجاني أسباباً تخفيفية تُربط بـ «سلوك» المعتدى عليها، بات إستسهال الجريمة ضد المرأة أمراً مؤكَّداً، والدليل إزدياد عدد الضحايا من النساء يوماً بعد يوم في لبنان، ومعه إزدياد فظاعة الجرائم.
من جهة أخرى فإن التعاطي مع الجرائم التي تطال النساء، إن على صعيد التحقيقات أو إصدار الأحكام يحمل الكثير من المماطلة التي تصل أحياناً حد الإستهتار بالضحية. فقبل بضعة أيام وبعد 9 سنوات على الجريمة التي أودت بحياة الضحية رولا يعقوب التي عانت العنف الزوجي لسنوات، أصدرت محكمة التمييز، حُكْماً بإدانة زوجها كرم عفيف البازي، ومعاقبته بالأشغال الشاقة لمدة خمس سنوات، فضلاً عن تجريده من حقوقه المدنية، وإلزامه بدفع تعويض مالي لوالدتها.
وقالت المحامية ليلى عواضة، مسؤولة وحدة العنف الأسري في جمعية «كفى»، إن الزوج أدين بجناية التسبُّب بالموت، وليس القتل، والتي يعاقب عليها القانون بمدة أقلها خمس سنوات، وأقصاها سبع سنوات.
وفي متابعةٍ ميدانية له ذَكَرَ موقعُ «شريكة ولكن» الذي يعنى بالقضايا النسوية والدفاع عن المرأة أن هناك مئات من قضايا قتل للنساء ما زالت غير محلولة ولم تؤد بعد إلى إيجاد الجاني والإقتصاص منه، أو أن ثمة مَن يحاول أن يجد تبريراتٍ لهذه الجرائم.
ففي جريمةِ قتْلٍ إرتَكَبها عنصرٌ في الجيش بحق زوجته حيث أرداها قتيلة أمام أطفالها في الثاني والعشرين من شهر مارس الماضي، نقلتْ مصادر صحفية أن المعلومات الأولية عن سبب الجريمة يرتبط بالتذّرع بالخيانة،في محاولة لجعْل الجريمة مبرَّرة إجتماعياً وفق موقع «شريكة ولكن»، وهذا ما يعكس إستمرار الذهنية التي تبيح القتل بدافع الشرف وان إنتفى هذا الدافع فعلياً من القانون اللبناني.
قوانين تحمي النساء واستهتار يقتلهن
في اتصالٍ مع إحدى المحاميات التي فضّلتْ عدم ذكر اسمها أكدت لـ «الراي» أن القانون اللبناني ألغى جرائمَ الشرف منذ 27 آب 2011 ولم يعد يبرّر للجاني قتْله للمرأة تحت هذا المسمى، لكنه لم يَمْحُ هذا النوع من الجرائم من الذهنية العامة، إذ ما إن تَحْدُث جريمة حتى يذهب البعض الى التفتيش عن أسبابها في سلوكيات المرأة وليس في سلوكيات القاتل أو المعنِّف.
القانون اللبناني يتعاطى بالطريقة نفسها مع القاتل سواء كانت ضحيته رجلاً أو امرأة، كما تؤكد المحامية لكن تطبيق القانون هو الذي ما زال مجال شك والتباس سواء من قبل الضابطة العدلية أو من خلال النظام القضائي. فالضابطة العدلية تتراخى أحياناً في ملاحقة مَن يشتبه فيه بتعنيف المرأة أو الإعتداء عليها أو قد تقوم بتأخير البت ببلاغات مقدَّمة إليها، مستخفةً بالعنف المنزلي ما يؤدي إلى هروب الجاني أو إلى عودته لإرتكاب جريمةٍ أعنف قد تصل إلى حد القتل. كما أن ضغوطاً يمكن أن تُمارَس على القضاة من جهات نافذة إما لتخفيف الحُكْمِ على الجاني وإعطائه أسباباً مخفَّفة، كالإدعاء بأنه مريض نفسياً أو مجنون. «فالعلة ليست في القانون بل في تطبيقه وفي الأحكام الصادرة بحق مرتكبي الجرائم ضد النساء التي قد لا تكون صارمة بشكل كاف لتحقيق العدالة للضحية وردع المجرمين من التمادي بجرائمهم ضد النساء».
في ظل هذه المعطيات هل بات يمكن الحديث عن ظاهرة قتْل النساء في لبنان؟ عن هذا السؤال تجيب رئيسة الهيئة اللبنانية لمناهضة العنف ضد المرأة السيدة لورا صفير قائلة: «الجرائم دائماً موجودة في المجتمع، وحصلت في الأعوام الماضية جرائم كثيرة ضد النساء. حتى أن بعض الجرائم التي سُجّلت في خانة إنتحار، كانت في الواقع لنساء دُفعن إليها ويمكن إعتبارها جرائم قتل. لكن البارز اليوم هو التداول الإعلامي بجرائم قتل النساء، وهذا ما أوْجَدَ وعياً أكبر في المجتمع وأسّس لمفهوم جديد هو عدم أحقية الرجال بممارسة تسلطهن على النساء».
وتضيف: «معروف أن المرأة هي التي تدفع الثمن في كل الأزمات والنزاعات المسلّحة، واليوم وفي ظل الظروف الاقتصادية السيئة التي يمر بها لبنان والتي ولّدت ضغوطاً غير مسبوقة داخل المجتمع والعائلة وتَشنُّجاً قوياً في العلاقات (إضافة الى التسلط الذكوري و النظرة الفوقية) باتت المرأة هي»فشة الخلق«وضحية العنف لا الجسدي فقط بل النفسي والمعنوي. فالمرأة تُقتل نفسياً داخل بيتها مئات المرات حين يُمنع عنها المصروف أو تُمنع من العمل أو تُعَنَّفُ كلامياً وتهان كرامتُها أو حين تُزَوَّجُ صغيرةً رغماً عنها. وتزداد هذه الممارسات العنفية مع تفاقم الظروف الأمنية والاقتصادية وإنتشار الفوضى والمخدرات».
تشديد العقوبات لردع الجناة
صحيح أن قانون «حماية النساء وسائر أفراد الأسرة من العنف» الذي أُقرّ قبل أعوام بعد كفاحٍ طويل شكل درعاً ضد العنف، لكنه لم يكن كافياً لأنه لم يَفرض عقوباتٍ مشدَّدةً على المعنِّفين تشكل رادعاً قوياً لهم، وهو بحاجة إلى تعديل ليؤمن الحماية الكافية للنساء وليردع المعنِّف لأن التساهل بأعمال العنف البسيطة يمكن أن يؤدي إلى تَفاقُمِها وتَحَوُّلها جرائم موصوفة.
وتؤكد صفير “أن وضع لبنان ككل اليوم ليس على ما يرام، فالقوى الأمنية رغم كل ما تبذله من جهودٍ عاجزةٌ عن الإستجابة السريعة تجاه كل ما يحصل من جرائم، وليس فقط الجرائم التي تطاول النساء، وفي حين أن هناك مَخافر تقوم باستجابةٍ سريعة عند أي تبليغ بجريمة عنف تجاه النساء يبقى هناك مخافر تماطل وتتأخر في الإستجابة رغم كون عناصر قوى الأمن تَدَرَّبوا على هذا الموضوع. ولا شك في أن ثمة تفاعلاً قوياً بين القوى الأمنية والجمعيات المختصة لكن الأمر ما زال بحاجة لبذل المزيد من الجهود لحماية النساء”.
… إنها المرأة «الحلقةُ الأضعفُ» في مجتمعاتٍ ذكورية «تؤّهلها» لتكون ضحيةً مزدوجةً لموروثاتٍ اجتماعية ولقوانين ناقصة، و«فريسة سهلة» لعنفٍ لا يقتصر على مجتمعٍ أو بلدٍ مع فارِق «تبريره» في مكانٍ وإدانته في آخر ومعاقبته أشدّ عقاب.