لبنانمباشر

حِرفتنا هويتنا… لا وزارة ترعاها وتحميها

كتبت زيزي إسطفان في “نداء الوطن”:

عَلَم لبنان شغل الصين، قلعة بعلبك مجهولة المصدر، أعلام الأحزاب اللبنانية التي تتباهى بوطنيتها تأتي من بلدان بعيدة… رموزنا الوطنية ليست صنع لبنان…واقع غريب لشعب يتقاتل في ما بينه حول الأحقية بالسيادة والاستقلال والوطنية. الحرف اليدوية التي يجب أن تكون في أساس صناعة الرموز الوطنية والتراثية مهمشة وتكاد تكون غائبة، مكتومة القيد وغير محددة الهوية، وهو ما دعا جمعية «نحن» بالتعاون مع نقابات الحرفيين الى رفع الصوت لإعادة الإعتبار للحرف اللبنانية وإعطائها وضعاً قانونياً يحمي العاملين فيها ويحفظها من الإندثار…

حملة «حرفتنا هويتنا» انطلقت منذ حوالى أسبوع لتسلط الضوء على واقع القطاع الحرفي المهمش في لبنان وما يعانيه من معوقات وغياب للمعايير التي تحدد ماهيته. الحملة أطلقتها جمعية « نحن» التي تعنى بالتراث والمساحات العامة والإرث الثقافي وكل ما يجمع بين اللبنانيين. القصة بدأت كما يرويها محمد أيوب رئيس الجمعية حين «قمنا بعمل خريطة لمعالم المدينة الحلوة. وبناء على اقتراح إحدى المنظمات للحملة توجهنا الى برج حمود للاطلاع على معالم مهمة فيها. هناك تفاجأنا بعدد كبير من الحرفيين يشكلون ركيزة هذه المنطقة. إلتقيناهم واستمعنا إليهم وأصدرنا كتاباً عنوانه: «حرف صُنعت في برج حمود وحرف صَنعت برج حمود». وعبر هذه المقابلات وجدنا أن لا حماية اجتماعية وثقافية وصحية للحرفيين ولا قانون يختص بهم وينظمهم ويحميهم».

تهميش رسمي

ثمة التباس في تحديد معنى الحرفة اليدوية ومن هم الحرفيون إذ لا معايير تحدد عملهم. هم ينظرون الى حرفتهم كعمل مرتبط بالسياحة عبر النوستالجيا والتراث، فيما الدولة تتعاطى معهم على أنهم فئات مهمشة مرتبطة بوزارة الشؤون الاجتماعية وأقصى طموحاتها أن تقدم لهم مساعدات فيما هم قوة اقتصادية بإمكانها أن تساهم مساهمة فعالة في الدخل القومي. ففي تونس مثلاً يساهم الحرفيون في 9% من الناتج القومي، وفي المغرب 11% من الاقتصاد الوطني العام قائم على الحرفيين. وقد تطور العمل الحرفي بشكل كبير في هاتين الدولتين حين لم يعد مرتبطاً فقط بالنوستالجيا بل اندمج بالحياة اليومية والسوق المحلي وصار حاجة محلية تستمد روحها من الماضي إنما تُقدّم بطريقة جديدة تناسب الحياة اليومية.

في لبنان لا يزال العمل الحرفي مقيداً بثلاثة معوقات أساسية حيث لا تعريف واضحاً لماهيته ولا معايير له إضافة الى نظرة الدولة التهميشية له وغياب القوانين التي تشكل الإطار الشرعي له. وقد أدى هذا التهميش مع الوقت الى اندثار حرف كثيرة من لبنان وانقراض المهارات التي كانت ترافقها بدل تمريرها الى الأجيال المقبلة.

رموزنا اللبنانية شغل لبنان

«المشكلة الأساسية يقول أيوب هي فقدان سلسلة الإنتاج اليوم بمعنى ان أجدادنا لم يكونوا يرمون أي شيء، فالقمح مثلا يحول طحيناً فيما القش يستعمل لصنع الأثاث. وكذلك الصوف ينسج ويحول الى خيطان اي كان الانتاج 100% ولا شيء فيه يتلف.لا شك أن التطور قد جعل بعض الحرف تختفي لكن للأسف ليس لدينا اي متحف لحماية هذا الإرث الحرفي الثقافي وتمريره لأولادنا كما ان ثقافة العمل الحرفي غير موجودة في المناهج التربوية. ودور وزارتي الثقافة والتربية مفقود في هذا المجال».

معاناة الحرفيين تذهب أبعد من التسميات والمعايير فهم في الواقع لا يملكون أي ضمان صحي او اجتماعي كونهم أفراداً لا مصانع وليسوا قادرين على التصدير بشكل شرعي لأنهم لا يملكون شهادة منشأ وتفرض عليهم ضرائب عالية إذا ما قاموا بتسجيل مؤسساتهم لذا فإن العديدين منهم يعملون في السر ولا يصرّحون عن أشغالهم. اما الحماية الجمركية فغائبة كلياً في حين أنه في الدول الأخرى تفرض ضرائب باهظة على البضائع الحرفية التي يتم إدخالها الى البلد حين يكون هناك بضائع حرفية شبيهة لها في البلد. والمؤلم في الأمر أن لبنان الذي كان قد خصص معلماً هندسيا رائعاً في منطقة عين المريسة هو « بيت المحترف اللبناني» عاد في زمن الانحطاط وحوّل هذا المعلم الى مطاعم ولم يترك إلا جزءاً يسيراً منه للحرفيين، أما مطار بيروت الذي كان يحوي أكثر من 40 محلاً حرفياً فلم يعد فيه اليوم إلا بضعة محلات فيما سوق جبيل القديم باتت معظم بضائعه «التراثية»مستوردة من الخارج، حتى إكسبو دبي لم يدع إليه الحرفيون اللبنانيون علماً أن العمل الحرفي قبل الأزمة الاقتصادية كان يدخل ما يقارب 20 مليون دولار الى لبنان وفق دراسة أجريت سابقاً.

نعم لقانون يحمي الحرفيين

تجاه هذا الواقع تحركت جمعية « نحن» ساعية لإقرار قانون يحمي الحرفيين ويحفظ حقوقهم وجالت على المسؤولين وأطلقت حملة واسعة لتسليط الضوء على واقع الحرفيين في لبنان والحفاظ على الحرف اللبنانية من الإندثار لا سيما أنها قادرة على لعب دور اقتصادي مهم. وبداية تم وضع تعريف واضح للحرفي وهو الشخص الذي يعمل يدوياً لتحويل مادة خام الى منتج نهائي على ان يكون هذا المنتج مرتبطاً بالإرث الثقافي ويحمل لمسة إبداعية، وتم وضع معايير تحدد عمله. كما تمت المطالبة بتغيير نظرة الدولة إليه وربط العمل الحرفي بوزارة الصناعة لتكون وصية عليه مع دور أساسي لوزارات الثقافة والسياحة والشؤون الاجتماعية والعمل والاقتصاد والتربية وحتى البلديات. والأهم حماية الحرفيين وإدخالهم في الضمان الاجتماعي وحماية عملهم من خلال رفع الرسوم الجمركية على البضائع المماثلة بغية عدم إغراق السوق المحلي بها للحفاظ على قيمة العمل الحرفي وتخفيض الضرائب على المواد الأولية المستخدمة في الحرف.

«حتى اليوم يقول محمد ايوب أحصينا 500 حرفي هذا عدا الذين يعملون في السر و20 نوعاً من الحرف ينقسم كل منها الى أنواع، أما أكثر المناطق التي يتركز فيها العمل الحرفي فهي طرابلس وصيدا وبرج حمود إضافة الى بعض قرى الجنوب مثل جزين والصرفند وقرى الأرياف التي بدأت الحرف تضعف فيها بشكل كبير. ومن هنا وجدنا ضرورة تسجيل كل الحرف في السجل الحرفي حتى لا تضيع».

قوة اقتصادية واكتفاء ذاتي

حسن وهبي نقيب الحرفيين الفنيين يشكر المبادرة التي تقوم بها جمعية «نحن» لكن لا يوافق على تصنيف الحرفيين ويقول ان ليس كل من يعمل بيده هو حرفي بل يجب أن تكون حرفته مميزة تحمل لمسة إبداعية إذ بهذه الطريقة فقط يمكن المحافظة على الإرث الحضاري للحرفيين والوجه الثقافي للبلد. وبرأي وهبة أن للعمل الحرفي شروطاً وهي أن يكون بنسبة 70% منه عملاً يدوياً لا تدخل المكننة فيه وأن يكون ذا طابع تراثي يعرّف عن البلد. والحرفي بشكل عام غير قادر على انتاج كميات كبيرة لأن عمله يحتاج الى وقت أما حين يتحول الانتاج الى كميات تجارية فعندها تتحول الحرفة الى صناعة أو حين لا يحمل المنتج معايير فنية حينها لا يمكن اعتبار صاحبه حرفياً حتى وإن كان يعمل بيده وهذا ما يحصل حوله نقاش اليوم بين النقابة والجمعية.

ومن الحرف الفنية الرائجة في لبنان ضرب النحاس والألمنيوم، شغل العبايات، الزجاج المنفوخ، صناعة اللبادات، صناعة أدوات المائدة الفضية في جزين والتطريز اليدوي بخيوط فضية او خيوط الصويا، حبك السجادات على النول، صناعة الصابون بأشكال مميزة وصناعة الكروشيه الفنية وموزاييك الزجاج البلاستيك، حفر الخشب وكل ما له علاقة بتحويل مادة أولية الى مادة فنية من خلال العمل اليدوي المبدع.

بيت المحترف اللبناني أيام العز

يؤكد وهبي ان الحرفيين كان لديهم سابقاً اكتفاء ذاتي ووضعهم ممتاز لا «يلحّقون شغل» وتصدير الى الدول العربية مثل الكويت والسعودية والإمارات وكانوا يشاركون في معارض أوروبية ولديهم بضاعة في السوق الحرة وفي محترف عين المريسة وكان لديهم زبائن ثابتون في الخليج لكن اليوم مع ارتفاع كلفة الكهرباء والمازوت والمواد الأولية باتت كلفة الانتاج عالية وارتفع سعر البضائع الحرفية التي لم يعد باستطاعتها منافسة البضائع المستوردة في ظل غياب للوزارات المختصة عن هذا الموضوع. ووهبي الذي يدرك من جهة أخرى أن الحرفي اللبناني «مقصر» قليلاً لأنه غير قادر على تلبية الطلبيات الكبيرة التي تعود بمردود كبير وأنه مضطر لرفع أسعاره، يدرك أيضاً أن الدولة لم تحم الحرفي لا من خلال تخفيض الضرائب او من خلال تخفيض كلفة المواد الأولية أو رفع الجمارك على المواد المستوردة مثل الفخار او النحاس حتى لا تنافس الانتاج الحرفي اللبناني ومنع استيراد الرموز اللبنانية من الخارج رغم تجاوب كلي يبديه وزراء اليوم.

خان الصابون قصة نجاح

صناعة الصابون التي اشتهرت بها مدينة طرابلس منذ قرون استطاعت عبر خان الصابون حسون ان تصل الى العالمية. هي قصة نجاح يمكن ان تلهم العمل الحرفي اللبناني للانتقال الى نطاق أوسع مع الحفاظ على صفة الحرفية. يقول أمير حسون «نحن حافظنا على الإرث الثقافي لصناعة الصابون وطورناه وأدخلنا إليه الزيوت والعطور بشكل يزاوج بين الحرفة والتقنية والعلم وصار المنتج فلسفة قائمة بذاتها وليس مجرد صناعة او حرفة. في خان الصابون حسون اليوم أكثر من 1400 صنف مختلف تعتمد على النوعية الراقية والعمل اليدوي المتقن لتصل الى كل العالم والى كبار مثل البابا فرنسيس، الأمير شارلز والشيخة موزة وسواهم». قد يقول البعض إن هذه لم تعد حرفة بل صناعة لكن امير حسون يؤكد أنها حرفية بامتياز ولكن بشكل ذكي ساهم في تطورها وحفظها من الإندثار وكرس معها طرابلس عاصمة للصابون. الوالد المؤسس د.بدر حسون أخذ الحرفة عن والده لكن شغفه بحرفته ورؤيته ومزاجه وتعلقه بتراثه، هذه الأمور كلها دفعته للارتقاء بهذه الحرفة وتقديم منتج راق بتركيبته وشكله المبتكر وغلافه ومحتواه التسويقي واستطاع أن يصل به بجدارة الى كل العالم.

هي نقطة ضوء في الأزمة اللبنانية استطاعت الاستمرار والتفوق وبيّنت أن اللبناني متى آمن بنفسه وقدراته قادر على الرسوخ في بلده والوصول الى أماكن بعيدة.

مقالات ذات صلة