هل يتغيّر عمر الإنسان في الفضاء؟
لطالما اعتبر الإنسان الفضاء لغزاً لا بد من حله، وتطلع إلى اكتشافه بشغف عبر العصور، كما خاض معترك إثبات الفرضيات بحجج قوية وقياسات ومعادلات حسابية وقوانين فيزيائية عبقرية، على أيد أكثر العلماء ذكاءً.فيما لم يترك النظريات التي أثبتها تحد من مخيلته التي تسكنها المجرات والشهب والأجرام، بل وسّعها وطورها حتى وصل إلى ما نعتقد بأنه حقائق جازمة في وقتنا الحالي. ولعل إحدى هذه الحقائق المثيرة هي ما يتعلق بالوقت في الفضاء، والتي تدور الكثير من التساؤلات حول تأثيره على عمر رواد الفضاء. وسيكشف لك هذا المقال أهم أسرار الوقت في الفضاء بدءاً بتاريخ النظريات المتعلقة به.فقد كان الفضاء والوقت مفهومين غير واقعيين بالنسبة إلى الفيلسوف زينو والذي عاش في الفترة الزمنية 262 إلى 344 ما قبل الميلاد، فهما برأيه غير قابلين للقياس بشكل ملموس. وقد اعتُبرت هذه الفرضيات ميتافيزيقيا بحتة. حيث إن زينو كان مقتنعاً أن مصطلح “الفضاء الفارغ” ليس إلا تناقضاً في الألفاظ؛ فكيف لشيء أن يكون فارغاً وموجوداً.
وسبق زينو في العام 450 قبل الميلاد أول علماء الذرة اليونانيين؛ ليوكيبوس، وهو مؤسس النظرية الذرية، والذي قال إن الفضاء موجود لكن بصورة مستقلة عن المادة، وطرح مثاله الشهير عن الفراغ بين ذرات المادة ليؤكد على وجود هذا الفضاء. كما جاء أرسطو يدحض ما تحدث عنه زينو، وأكد أن استخدام العلائقية (ربط المفاهيم والاستنتاج دون التجربة) لم يضف أي شيء على مفاهيمنا للفضاء والوقت.
أما الفيلسوف لوكريتيوس وهو واحد من أكبر الفلاسفة الرومان، كان أول من أثار بجدية فكرة الزمن المتعلق بالعلاقات في السنة الخمسين قبل الميلاد، حيث قال في كتابه “طبيعة الكون” إن “الزمان في حد ذاته غير موجود، لكنه يجب ألا يكون كذلك. أي أن أي شخص يمكنه أن يشعر بالزمن بنفسه بغض النظر عن حركة الأشياء”.
وكان الناس يعتقدون أن “الزمكان” هو إطار ثابت الأبعاد، يحتوي على جميع الأحداث في الكون حيث يمكننا تخيل الزمكان كمكان يحدث فيه كل شيء، بدءاً من حركة الكواكب إلى تغيرات الطقس. لكن في تلك الحقبة، لم يكن هناك عالم يمتلك مفهوماً يمكن أن يترسخ في عقول الناس.
وفي بداية القرن العشرين، قام عالم الفيزياء النظرية الألماني ألبرت أينشتاين بتقديم نظرية النسبية العامة. وبذلك حدّث فهمنا للزمكان. بدلاً من تصور الزمكان على أنه إطار ثابت، أوضح أينشتاين أن الكتلة والطاقة تشوهان الزمكان ويؤثران على حركة الأشياء فيه؛ بحيث يمكننا تصور الزمكان على أنه قماش مرن يميل وينحني تحت تأثير الأشياء الموجودة فيه. هذا التشوه يؤثر على طريقة انتقال الضوء وحركة الأجسام في الفضاء.
وإذا كنت تتساءل عما إذا كان الوقت يختلف في الأرض عن الفضاء؛ فالعوامل التي وضحتها النظرية النسبية تجيبك على هذا السؤال بـ” نعم”! تفسر النظرية النسبية العوامل التي جعلت الوقت يختلف في الفضاء عن الوقت في الأرض؛ بحيث قادت هذه النظرية إلى نظرية تمدد الزمن، أو الإبطاء الزمني، والتي توضح أن هناك اختلافًا في سريان الزمن بين الأرض والفضاء، وذلك بسبب التأثيرات الجاذبية والسرعة النسبية.
كما يؤثر تواجد الكتلة والطاقة في منطقة معينة على الزمان في تلك المنطقة بحسب نظرية النسبية العامة؛ على سبيل المثال: عندما يكون هناك كتلة ضخمة مثل الكواكب أو الثقوب السوداء، يتم تشويه الزمان في محيطها.
ونتيجة لذلك، يكون هناك اختلاف في تدفق الزمن بين المناطق ذات الجاذبية المختلفة. كما أن حركة الجسم بسرعة عالية نسبيًا، يمكن أن يحدث تباطؤ في سريان الزمن بالنسبة لجسم آخر في حالة سكون نسبي، وهذا المفهوم يعرف باسم “التباطؤ الزمني النسبي”.
في حين يتم قياس الاختلاف في الزمن بواسطة الساعات الذرية الموجودة في المختبرات. لنوضح ذلك بشكل أبسط.
فالعوامل التي عازت إليها النظرية النسبية اختلاف الوقت بين الأرض والفضاء، هي:
1. تأثير السرعة النسبية: عندما تتحرك الأجسام في الفضاء بسرعات عالية، يحدث تأثير الزمن النسبي، والذي يعني أن سريان الزمن يختلف بناءً على سرعة الجسم المتحرك. ولذلك، عندما يكون رائد الفضاء في مركبة فضائية تسافر بسرعة عالية، ستمر ساعاته بشكل أبطأ بالمقارنة مع الساعات على الأرض.
2. تأثير الجاذبية: الجاذبية في الفضاء أيضًا تؤثر على سريان الزمن. على سبيل المثال، في المجال القريب من كتلة ضخمة مثل الكواكب أو النجوم، يتم تشويه الزمان بشكل طفيف، مما يؤدي إلى اختلاف في سريان الزمن بالمقارنة مع مناطق الفضاء التي تخلو من تأثيرات جاذبية قوية.
3. القياس والتنسيق: تشكل مسألة تحديد الوقت في الفضاء تحديًا، حيث توجد عدة نظم لقياس الوقت مثل نظام توقيت العالم المنسق (UTC). كما تتعاون وكالات الفضاء مثل ناسا والوكالات الفضائية الأخرى على توحيد قياسات الوقت.
لكن هل يتغير عمر الإنسان في الفضاء؟ يمر الزمن على الفضاء أبطأ مما هو على الأرض، ولذلك يعود رواد الفضاء إلى الأرض ليكونوا أصغر سناً مما كان يفترض أن يكونوا عليه لو أمضوا المدة التي قضوها في الفضاء، على الأرض بدلاً من ذلك، مما يعني أن الوقت الذي مر عليهم في الفضاء كان أقل من الوقت الذي مضى على الأرض، بمدة يتم قياسها بحسب السرعة التي كانوا يتحركون بها في الفضاء.
لكن الوقت في الفضاء ليس محصوراً بالزمن فقط، بل بالإنجاز الذي أتمه رائد الفضاء عند صعوده في رحلة محفوفة بالمخاطر، ليساهم في رحلة اكتشاف اللغز الأكثر تشويقاً على الإطلاق: وهو الفضاء الخارجي.
وهذا ما يطمح لتحقيقه الرائدان السعوديان؛ ريانة برناوي وعلي القرني في رحلتهما الحالية إلى الفضاء مع مهمة تاريخية، حرصنا في قناة العربية على أن نلتقي بهما قبلها لنعرف ما يشعران به، وما الدور الذي سيقومان به خلالها. (العربية)