المناوشات في الجنوب لتعويد الناس على فكرة الحرب
كتب اندريه قصاص:
عندما كنا صغارًا كنا نرافق والدينا في الزيارات التي كانوا يقومون بها للأهل، والأقارب، والمعارف، والجيران. ولكي يتسنى لهما أن يلعبا “دق ترنيب” من دون أن نزعجهما وسائر اللاعبين كانا يسمحان لنا بالقيام بما لم يمكن يُسمح به في الأوقات العادية. المهمّ بالنسبة إليهما كان تمضية بعض الوقت في “لعبة الورق” برواق ومن دون وجع رأس وكثرة نقّ. وكنا نستفيد من فرصة السماح هذه قدر الإمكان تعويضًا عن حرماننا اللعب واللهو في زمن الدرس، “لأن في الدنيا أشياء أهمّ من اللعب وطق الحنك وتضييع الوقت بأشياء تافهة ولا قيمة لها”. كان همّ الأهل في الزمن الجميل، الذي لن يعود، أن يتفوق أولادهم في صفوفهم الدراسية، وأن يكونوا الأوائل من بين أقرانهم. والمفارقة أن جميع التلامذة كانوا الأوائل في نظر أهاليهم. ولم يصدف أن أحدًا منا كان يطلع “الطشّ”.
المهمّ في هذه العودة إلى زمن الطفولة أن ما يحصل اليوم على أرض الواقع السياسي المشوب بهواجس أمنية يشبه كثيرًا ما كان أهلنا يفعلونه معنا حين يسمحون لنا بأن نلتهي بألعابنا الصغيرة، ولم تكن ألعاب هذا العصر قد غزتنا وأفسدت ما في طفولتنا من براءة، لأنهم كانوا يريدون إلهاءنا بأي وسيلة من الوسائل. المهم ألا نزعجهم وننغصّ عليهم “لعبة الورق”.
قد تكون الصورة كاريكاتورية، لكنها واقعية. نعيش تفاصيلها في كل خطوة نخطوها منذ اليوم الأول لرفض لبنان توطين الفلسطينيين، ووقوفه اليوم في وجه النزوح السوري العشوائي، والذي يُقال إنه يهدف إلى تغيير هوية لبنان وديموغرافيته، والسعي الحثيث لعدم جرّ لبنان إلى حرب مدمرة. ومع هذا كله يحاولون، أي “الكبار”، أن يلهونا، نحن الصغار”، بأشياء كثيرة لكي يتسنى لهم “اللعب على رواق”.
ومن بين أدوات الالهاء على سبيل المثال لا الحصر التذّرع بالوضع المتفجّر في الجنوب للاستمرار في المراوحة في عملية انتخاب رئيس جديد، مع ما يرافق ذلك من تغييب أي تحرّك في هذا المجال، مما يثير أكثر من علامة استفهام عن الغايات من وراء إبقاء اللبنانيين “قاعدين على أعصابهم”، لا يعرفون متى تبدأ الحرب إذا كان لا مهرب من هذا القدر المحتّم.
فبدلًا من الاستفادة من هذا المأزق للانصراف إلى انتخاب رئيس للجمهورية اليوم قبل الغد، نلاحظ مماطلة مقصودة، حتى أن الكلام عن هذا الاستحقاق قد بات من المحرمات، مع العلم أن انتخاب رئيس جديد للجمهورية من شأنه أن يحفظ المؤسسات الدستورية، التي من خلالها ينتظم عمل المؤسسات الأخرى، من دون أن ننسى “ملهاة” التصويب على عمل الحكومة، وما يرافقها من “سيناريوهات تعطيلية” تمتدّ إلى السلطتين التشريعية والقضائية أيضًا. وأن ننسى فلن ننسى “ملهاة” النائب باسيل، الذي يحاول أن يقطع اللبن بسكين.
بالتوازي فإن عمليات الالهاء المقصودة والمدروسة والمدوزنة على سلّم الاهتمامات اللبنانية تدخل إلى عمق المشاكل اليومية، التي يعاني منها اللبنانيون أساسًا، وقبل التهديدات الإسرائيلية، في مختلف المجالات، وأهمّ هذه المجالات ما له علاقة مباشرة بحياة الناس كالأكل والشرب والملبس والتنقلات، فضلًا عمّا له ارتباط مباشر بشؤونهم اليومية كالطبابة والتعليم والسكن، أو ما يُسمّى بـ “المثلث الميمي”، أي مسكن ومستشفى ومدرسة، التي تتمحور حياة الناس حولها في شكل أساسي، وهي تدخل بطبيعة الحال في صلب اهتمامات اللبنانيين، الذين يكتشفون كل يوم أن هذه المستلزمات الضرورية لإكمال دورة الحياة ناقصة وغير متوافرة كما هي الحال في الدول، التي يُحترم فيها الانسان، وتُحفظ كرامته.
فإذا كان الحدّ الأدنى من مسلتزمات العيش بكرامة غير متوافر في الزمن العادي فكم بالأحرى في زمن الحرب؟
بكل هذه الاهتمامات ينشغل اللبنانيون، وهم يصرفون معظم أوقاتهم في التفتيش عن الوسائل، التي قد تمكّنهم من العيش وسط دائرة الأمان الاجتماعي، بحيث يحصرون كل طاقاتهم وجهودهم بهذه النواحي، في الوقت الذي بلغوا فيه مرحلة اللامبالاة بما يُطبخ لهم في الخارج، وما يُحضّر لهم من مخططات. ولذلك بتنا نرى معظم الناس يعيشون على هامش الحياة السياسية، وهم يفضّلون، لو خيّروا، مئة مرّة أن يعيشوا بكرامة على أن يعيشوا غرباء في وطن لا يشبههم.
فلكي لا يزعج اللبنانيون “الكبارَ” بكثير من الأسئلة يجدون لهم في كل مرّة ما يلهيهم، وما يصرف أنظارهم عمّا هو مهمّ بأشياء أقّل أهمية، وصولًا إلى التسليم بالأمر الواقع، على رغم ما فيه من بشاعات وظلمات. وهذا ما يحصل في الجنوب من مناوشات يسقط فيها الشهداء بالعشرات وقبل أن تبدأ الحرب الفعلية، كمقدمة لتعويد اللبنانيين على تقبّل فكرة ما في هذه الحرب من قذارة وبشاعة.