ما رواه أهالي الاطفال المعنّفين!
كتبت كارين عبد النور في “نداء الوطن”:
شوارع مليئة بالجلادين. أما أن يتمدّد هؤلاء إلى دور الحضانة، فهذا كثيرٌ كثير. ما تسرّب قبل يومين من خلف جدران إحدى حضانات المتن يطرح السؤال: هل بتنا بحاجة لإعادة تعريف مفهوم الأمان من أصله؟ تعنيف على المكشوف. والمعنَّفون أطفال. «بِبْعَتْ إبني عالحضانة من سنة لمّا كان عمرو 3 أشهر. ما عنّا حدا نحطّوا عندو. كيف إلها قلب تعمل فيهن هيك؟». هكذا تخبرنا إحدى الأمهات المعنيات. قضية بأبعاد كثيرة. الأهل من ناحية والحضانة من ناحية أخرى. والأطفال أضعف حلقات المعادلة. لكن القضية، يتخوّف كثيرون، مجرّد رأس جبل جليد لإعطاب منظومة اجتماعية متكاملة.
ما إن انتشر فيديو التعنيف المقيت حتى «قامت القيامة ولم تقعد». «عم نحطّ دم قلبنا تَيِربى ولادنا على أسس اجتماعية وبيطلعوا بالآخر عم يتعنّفوا… شعور ما بينوصف تشوفي إبنك عم ينضرب على راسو بِوقت صوتك ما بيطلع عليه بالبيت». كلام للأهل بيار موسى ومنال خوري حول التعنيف هناك في تلك الحضانة. البعض طالب بإنزال أشد العقوبات بالمربّية جيني حلو خوري فيما وسّع آخرون «بيكار» المسؤولية ليطال كافة الجهات المعنية وأولها وزارة الصحة. هناك من حمّلوا المرأة مسؤولية ترك أولادها تحت رحمة الحضانات لتلبّي طموحها العملي. هؤلاء حذّروا من إنجاب الأطفال ما لم يكن للأم القدرة على تربيتهم. آراء وأراء مضادة. الحركات النسوية حذّرت بدورها سريعاً من اصطياد الفرص لإطلاق رصاص الحقد الذكوري وممارسة الجَلد الأبوي لترسيخ الدور الرعائي للمرأة. صحيح أننا لا نملك معطيات ظروف الناس، لكننا نملك قدرة التحكّم في حجب أحكامنا عن الآخرين. لكن الملفت، بغض النظر عن «التراشق» الذي غزا وسائل التواصل الاجتماعي، أن ابنة العشرة أشهر كانت تستفيق ليلاً على نوبات بكاء وصراخ مجهولة السبب. وإبن السنة كان يقوم بصفع والده بطريقة عنيفة. الموضوع ليس ابن ساعته على ما يبدو. فهل فكّر أحد بهؤلاء؟ نسمّيهم الضحايا الذين لا صوت لهم. ضحايا جريمة موصوفة.
تنبّهوا للإشارات
من أين نبدأ؟ الدكتور في علم النفس العيادي والمرضي، إيلي أبو شقرا، لخّص في حديث لـ»نداء الوطن» الانعكاسات النفسية الناتجة عن المعاملة السيئة التي شهدناها للأطفال. من ظهور علامات الخوف عليهم إلى تعرّضهم للكوابيس وعدم القدرة على النوم، كما الارتياب من الآخَر ومحدودية القدرة على التفاعل مع الغير. زد على ذلك الأثر النفسي الذي تحفره الكلمات النابية التي كانت تُلفظ على مسامعهم. لكن كيف للأهل أن يلاحظوا تعرّض طفلهم لمعاملة مماثلة؟ «من الطبيعي في بعض الأحيان أن يبكي الطفل حين يبدأ الأهل باصطحابه إلى الحضانة. لكن إذا استمرت الحالة لفترة طويلة، على الأهل التنبّه إلى وجود مخاوف غير تلك الطبيعية والمتعلقة بانفصال الولد عنهم. ولا يتوقف الأمر عند الامتداد الزمني إنما يتعدّاه إلى درجة الخوف أيضاً. فالولد الذي يبكي بشكل عادي قبل الذهاب إلى الحضانة يختلف عن الذي ترتفع حرارته ويُصاب بعوارض رعب حين ينظر إلى مبنى الحضانة من الخارج»، كما يشرح.
المعتدية وصفها أبو شقرا بالمرأة الساديّة التي كانت تستمتع بتعذيب الأطفال فاقدة السيطرة على عقلها وأعصابها، في حين أن الآخرين كانوا يبادلونها بالضحك دون تحريك ساكن. هو ناشد بضرورة إخضاع الموظفين لامتحان نفسي وتربوي قبل السماح لهم بالاقتراب من الأولاد. «التعاطي مع الأطفال دون الثلاث سنوات أصعب من التدريس في الجامعات، لدقة المرحلة ومحوريتها على صعيد بناء شخصية الطفل». أبو شقرا لفت إلى مشهد أظهره أحد التسجيلات حيث خبّأ الولد رأسه حين اقتربت منه المعلّمة، ما يدلّ على أن الحادثة ليست آنية و»فشّة خلق» إنما هي نمط مزمن يتمّ التعاطي من خلاله مع الأولاد. أما بما يخص الأهل، لا سيما من يعتبرون أن الحضانة تقوم بتحضير الولد للمدرسة وتساعده على الاندماج الاجتماعي، فأشار إلى أن لا قدرة للطفل على التفاعل مع الآخرين قبل عمر السنة أو السنة والنصف. «ما لم تكن الظروف التي تحتّم حضور المرأة إلى عملها قاهرة، أنصحها بالبقاء مع طفلها على الأقل حتى عمر السنة مع توزيع الأدوار بينها وبين الأب. وإلّا ما نفع العمل حين يُصرف الراتب على تكاليف الحضانة ومعالجة الطفل النفسية؟»، يتساءل أبو شقرا خاتماً.
تعنيف اليوم… عُقَد الغد
فيديو التعنيف المسرّب يعيد فتح ملف واقع الأحداث في لبنان بشكل عام. مصدر قضائي مختص جدّد رفع الصوت عبر «نداء الوطن» معتبراً أن هذا الواقع الذي عانى من إشكاليات وعقبات كثيرة حتى قبل 2019، وصل إلى حالة من التدهور الكلي بعد انعكاس الأزمات المتلاحقة عليه. فالوضع لا يطمئن خاصة وأن النتائج ستبدأ بالظهور بعد عقد من الزمن حين يتبلور نتاج ما نعيشه اليوم في جيل الغد. لكن ماذا عن الحضانات تحديداً؟ «على وزارة الصحة أن تضطلع بدور فاعل عبر الهيئات الرقابية التابعة لها للكشف على الحضانات المرخّصة واتخاذ الإجراءات بحق غير المرخّص منها. أما قضائياً، فقد لعب القضاء دوره بشكل فوري إن عبر النيابة العامة التي تلاحق صاحب الجرم، أو عبر قضاء الأحداث الذي يقوم بحماية القاصر. فقاضية الأحداث في جبل لبنان، جويل أبو حيدر، أصدرت قراراً بإقفال الحضانة إلى حين استكمال التحقيق، مكلّفة إحدى الجمعيات بالقيام بما يلزم للتحقق مما إذا كان باقي الأطفال قد تعرّضوا للممارسات نفسها»، يجيب المصدر.
لقاضية الأحداث كامل الصلاحية في حماية الأطفال المعنَّفين داخل الحضانة ومتابعتهم ومعالجتهم ومساعدتهم على تخطّي حالتهم النفسية عبر كافة الأطر المتاحة (خاصة بعد ما سمعناه عما يعانيه بعض الأطفال نفسياً). غير أن الحلّ الجذري لتجنّب هذه الممارسات على أنواعها لا يكون إلا من خلال وضع خطة وأطر واضحة، خاصة أن هناك الكثير من الجمعيات والمنظمات الحكومية وغير الحكومية والبرامج التي تُعنى بالموضوع. «ليس المطلوب تنظيم مؤتمرات إنما نريد تطبيقاً على أرض الواقع. المشاريع كثيرة لكن الإشكالية في التنفيذ الصحيح والفعال ما يتطلب إطلاق خطة شاملة عبر قضاء الأحداث وكل من وزارات العدل والشؤون الاجتماعية والتربية والصحة والداخلية، تخفيفاً من حدّة الأضرار المستقبلية».
العقوبات واليقظة
من جهته، استنكر نقيب أصحاب الحضانات المتخصّصة، شربل أبي نادر، في اتصال مع «نداء الوطن» ما حصل، مطالباً بإنزال أشدّ العقوبات بأي شخص يعنّف الأطفال جسدياً، لفظياً أو نفسياً. وقد أعرب عن أسفه لما تواجهه الحضانات حالياً من توظيف غير كفوء بسبب النقص الشديد في أعداد المربيات المتخصصات حاملات الشهادات العالية نتيجة الأزمة التي عصفت بلبنان. فللحدّ من حوادث مماثلة، وقّعت النقابة منذ قرابة الشهر اتفاق تعاون مع اتحاد حماية الأحداث (UPEL) لحماية الأطفال من العنف داخل الحضانات، وستنطلق الدورات التدريبية للموظفين بدءاً من الأسبوع المقبل. ويضيف: «الأمر لا يخلو من إمكانية وجود ولد منحرف داخل كل عائلة، لكن ذلك لا يجب أن ينعكس على الحضانات الأخرى المتخصصة. وهذا يحتّم أن نبقى متيقّظين لبيوتنا ولحضاناتنا – حتى الجيّدة منها – ومراقبة موظفيها. نشدّ على يد وزارة الصحة للتكثيف من زيارات الكشف على الحضانات وإتمام كافة واجباتها في هذا الخصوص».
لتطبيق الاتفاقيات
ونسأل المزيد. كيف يرى الخبير في قضايا حقوق الطفل، الدكتور إيلي مخايل، السبيل لتحسين واقع الحضانات في لبنان وإنقاذ الضحايا الأبرياء من براثن بعضها؟ يجيب في حديث لـ»نداء الوطن» بضرورة أن تتمتع كل حضانة بـ»سياسة حماية الطفل» التي تحدّد سلوك الأفراد المسؤولين والعاملين داخلها وتلزمهم بالتقيّد بها عبر توقيع عقود تحت طائلة المحاسبة». وهذه السياسة تشتمل أيضاً على مدوّنة سلوك يتمّ عبرها التحقق من أفراد الكادر العامل وما إذا كان لديهم سوابق سيئة كي لا يتعرّض الأطفال (وهُم من الفئات الهشّة مجتمعياً) لانتهاك مباشر من قِبَل المسؤولين عن رعايتهم وحمايتهم. أما حكومياً، ورغم أن مرسوم تأسيس الحضانات – الصادر في العام 2004 والمعدَّل في العام 2010 – حصر مسؤولية متابعتها بدائرة صحة الأم والولد في وزارة الصحة، إلا أن على الجهات المعنية كافة (من وزارة الشؤون الاجتماعية إلى المجلس الأعلى للطفولة فاتحاد حماية الأحداث وغيرها) التدخّل حين يتحوّل الأمر إلى انتهاك لحق الطفل.
فهل من حلول مستقبلية؟ «من شأن ما حصل قبل يومين أن يدفع بالدولة للعمل الجدّي على الحوكمة الصحيحة لدور الحضانات ووضع آليات على المستوى الوطني ليس فقط في ما خص موضوع الحماية ضد العنف، إنما أيضاً بما يتعلّق بالنواحي التربوية والصحية ونوعية الحياة داخل الحضانة وتأمين خدمات نوعية»، كما يلفت مخايل. فمنظومة حماية الطفل متكاملة ويجب أن يكون لها بنيتها التحتية وجهازها الكامل ومسؤوليها داخل الوزارات، إذ لا يمكن للدولة كما للمجتمع الاستقالة من دورهما.
ثم أن ضرورة تمتُّع الدولة بالقدرة المؤسساتية على رصد الانتهاكات ومتابعة الحضانات بشكل دوري – خاصة وأن لبنان سبق وصدّق على الاتفاقية الدولية لحقوق الطفل وشارك في كافة المؤتمرات التي دعت إلى وقاية وحماية الأطفال من العنف – لا تقلّ شأناً. «نحن مجتمع يتبنّى قِيَم الحماية لكن ما ينقصنا هو التطبيق ومتابعة تنفيذ القوانين وإنشاء بنية تحتية خاصة بالحماية كما تدريب الجهاز العامل وتحديد سياسة العمل داخل المؤسسة التي يعيش فيها الطفل إضافة إلى تحديد الإجراءات بحق أي منتهك».
الأسئلة كثيرة وما حصل قبل يومين يشرّع الأبواب على معظمها. المعنّفتان موقوفتان قيد التحقيق. ووزارة الصحة تريد إخضاع الأطفال في تلك الحضانة للفحص الطبي بعد سحب الرخصة منها. هذه كلها إجراءات موضعية مطلوبة بالطبع. لكننا، هنا كما في حالات أخرى، أمام مشهد مصغّر لواقع شامل تكثر فيه الانتهاكات على قدر كثرة المتفرّجين.