هل تندلع “حرب تموز” الثانية؟
كتب نجم الهاشم في “نداء الوطن”:
ربيع العام 2006، تعهّد الأمين العام لـ«الحزب» السيد حسن نصرالله أمام المشاركين في جلسات الحوار الوطني الذي كان دعا إليه رئيس مجلس النواب نبيه بري، بأن اللبنانيين سيمضون موسماً صيفياً واعداً. في 12 تموز من ذلك العام انهار الوعد مع العملية الأمنية التي نفذها «الحزب» جنوب الخط الأزرق، وأدّت إلى حرب مع إسرائيل استمرّت شهراً كاملاً وانتهت بفك الإشتباك والقرار 1701. اليوم بعد 17 عاماً تستمر أجواء التهديد بحرب جديدة، فهل «الحزب» قادر على الحرب؟
جلسات الحوار تلك التي عقدت في مجلس النواب كانت من آخر الجلسات التي شارك فيها نصرالله وكانت شهدت آخر الصور التي جمعته مع الأقطاب الذين شاركوا فيها. بعدها خرج من دائرة الظهور العلني ليعيش ضمن إجراءات أمنية غير مسبوقة بحيث أنّه لم يخرج إلى الضوء إلّا لماماً وفي مناسبات محددة ولدقائق معدودة.
كانت الساعة التاسعة صباح الأربعاء 12 تموز 2006، عندما فجّرت مجموعة من «الحزب» عبوة ناسفة بدورية إسرائيلية في خلّة وردة في خراج بلدة عيتا الشعب، أتبعتها بهجوم أدّى إلى أسر جنديين ونقلهما إلى داخل الأراضي اللبنانية.
منذ أيلول 2004 كان «الحزب» يعيش مواجهة مستمرة مع القرار 1559 الصادر عن مجلس الأمن الدولي والمُطالب بسحب سلاحه، ومع تداعياته التي أدّت إلى قيامه بسلسلة عمليات لإنهاء مفاعيل هذا القرار. كان اغتيال الرئيس رفيق الحريري أحد أبرز هذه العمليات. ولكنه أدّى إلى مفاعيل عكسية، كانسحاب الجيش السوري من لبنان، وفوز قوى 14 آذار بالأكثرية النيابية، جعلت «الحزب» يعيش جو حصار داخلياً وفي موقع دفاع عن نفسه وسلاحه. لذلك اعتُبرت عملية 12 تموز وكأنّها محاولة لفكّ هذا الحصار عبر افتعال حدث أمني مع إسرائيل يعيد تركيز وضعية «الحزب» في الداخل ويخفّف عنه مفاعيل القرار 1559، ويقيه «شرّ» التحقيق الدولي في اغتيال الرئيس رفيق الحريري، بعدما كان تبلّغ معطيات أولية حول دوره في عملية الإغتيال، نقلها إليه رئيس شعبة المعلومات في قوى الأمن الداخلي اللواء وسام الحسن نتيجة عمل دؤوب قام به أحد ضباط الشعبة الرائد وسام عيد، يتعلّق بشبكات الإتصال والهواتف التي عملت على تنفيذ العملية والمشاركة فيها.
هدنة ما بعد الحرب
بعد انتهاء الحرب بالقرار 1701 الذي أكّد على فكّ الإشتباك وعلى القرار 1559، كشف نصرالله أنّه لم يكن يتوقّع أن تؤدّي العملية إلى مثل هذه الحرب، وأنه لو كان يعلم لما كان أخذ القرار بتنفيذها ربما. ولكنه كان إعلاناً متأخراً بعد حرب مدمّرة أنهكت «الحزب» نفسه. صحيح أنّ الرئيس برّي كان يتولى تنسيق المفاوضات مع حكومة الرئيس فؤاد السنيورة بحثاً عن مخرج وحلّ، ولكنّه كان يفعل ذلك بطلب من «حزب الله» الذي بدا وكأنّه يريد إنهاء الحرب بأي طريقة.
صحيح أنّ العملية فاجأت إسرائيل، وأنّ الحرب التي خاضتها على مدى شهر كامل لم تكن تهدف إلى إعادة احتلال مناطق لبنانية، ولكن هذه الحرب أدّت عملياً إلى عدة نتائج صبّت في مصلحتها:
• قبول «حزب الله» باتفاق فكّ الإشتباك وبعدم الظهور المسلح جنوب خط الليطاني. والنتيجة أنّه منذ ذلك التاريخ لم يحصل أي اشتباك على طول الحدود بحيث بات الوضع يشبه ما كان عليه على الحدود بين سوريا وإسرائيل بعد اتفاق الهدنة الذي وقع بينهما في أيار 1974 بعد حرب تشرين 1973.
• زيادة عديد القوات الدولية العاملة في الجنوب إلى ما يقارب العشرة آلاف جندي وتفعيل دورها بحيث صارت قادرة على التحرك في المنطقة بحرية أكبر وبفعالية أكبر. وهذا الأمر أدّى عملياً إلى خشية الحزب منها وحرصه على تأمين مراقبة لصيقة لدورياتها.
• زيادة عديد قوات الجيش اللبناني في الجنوب إلى ما يقارب العشرة آلاف جندي أيضاً بعدما لم يكن هناك أي انتشار للجيش في المنطقة. وهذا ما أدى عملياً إلى وضع الجيش في الواجهة عند الحدود بينما يكتفي حزب الله بالإنتشار في الخيم تحت اسم جمعية «أخضر بلا حدود».
من الحرب مع إسرائيل إلى الحرب في سوريا
ثمة نتائج أخرى لتلك الحرب وللمواجهة المستمرة بين «حزب الله» وإسرائيل ظهرت تباعاً. بعد خمسة أعوام فقط انتقل «الحزب» من القتال المباشر في الجنوب ضد إسرائيل إلى قتال الجماعات الأصولية في سوريا وإلى الإنخراط في حرب اليمن ومشاكل العراق والبحرين والصراع مع دول الخليج وخصوصاً المملكة العربية السعودية. بدا وكأنّ «الحزب» صارت لديه وظيفة أخرى.
منذ ذلك التاريخ أيضاً بدا وكأنّ إسرائيل عادت تتفوّق على «الحزب» في الحرب الأمنية. قبل العام 2000 كان «الحزب» نجح في تسديد عدد من الضربات الموجعة لإسرائيل في عمليات نفّذها داخل الشريط الحدودي وفي خارجه كعملية أنصاريه، إلا أنّه منذ نجاح إسرائيل في اغتيال أبرز شخصية أمنية في «الحزب» عماد مغنية في دمشق في 12 شباط 2008، ظهر وكأنّ اللعبة الأمنية انقلبت ضدّه في الكامل، لتصبح «عملية الوعد الصادق» وكأنّها آخر العمليات التي تمكّن «الحزب» من تنفيذها.
حتى بعد اتهام «الحزب» الموساد الإسرائيلي بأنّه هو الذي اغتاله لم يقم «الحزب» برد مباشر، وتمّ كشف عمليات كان يحضّر لها في الخارج، ومنها عملية تفجير باص للركاب في بورغاس في بلغاريا في تموز 2012، وعمليات أخرى كان يخطّط لتنفيذها في دول أخرى.
انخراط «الحزب» في الحرب السورية كشفه أكثر أمام إسرائيل. سعى «الحزب» ليكون له قاعدة جديدة عند الحدود السورية الإسرائيلية بديلة عن الحدود اللبنانية، ولكنه فشل في تأسيس ما اعتبر دائماً أنه خطة استراتيجية لتوحيد ساحات المواجهة. على العكس نجحت إسرائيل في توجيه عدد من الضربات إلى «الحزب»:
• في 18 كانون الثاني 2015 اغتالت في سوريا جهاد عماد مغنية مع خمسة غيره كانوا في سيارة في منطقة القنيطرة.
• في 15 كانون الأول 2015 اغتالت سمير القنطار في المنطقة نفسها.
• في 13 أيار 2016 اغتالت مصطفى بدر الدين في قلب دمشق قرب المطار.
جدير بالذكر أنّ جهاد مغنية هو ابن عماد وأن سمير القنطار كان أسيراً في إسرائيل وتم إطلاق سراحه في عملية تبادل الأسرى والجثث بين إسرائيل والحزب بعد حرب تموز، وأن مصطفى بدر الدين هو الذي خلف مغنية وكان متهماً باغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري. وعلى رغم أنّ العمليات الإسرائيلية مستمرة ضد مواقع «الحزب» في سوريا، فإن الحزب بقي ملتزماً بسقف قواعد الاشتباك. حتى أنّ مشاهد وثّقت كيف أنّ طائرة إسرائيلية استهدفت آلية للحزب آتية من سوريا إلى لبنان وأطلقت قذيفة قربها حتى توقفت وانتظرت حتى أخلاها عناصر حزب الله ثم أصابتها ودمرتها.
حصار عالمي ضد «الحزب»
لم يقتصر الأمر على «حزب الله» وإسرائيل. في 3 كانون الثاني 2020 اغتالت واشنطن قائد فيلق القدس اللواء قاسم سليماني في العراق. على رغم أنّ نصرالله هدّد بطرد القوات الأميركية من المنطقة، إلا أنّها لا تزال تعمل في قواعدها بينما تشنّ واشنطن حرباً لا هوادة فيها ضد شبكات «الحزب» ومموليه في معظم دول العالم وتعرّضه إلى عقوبات شاملة كانت آخر تجلياتها إعادة فتح التحقيق في ملفات كثيرة هو متهم بها أبرزها تفجيرات بوينس إيرس في الأرجنتين التي استهدفت جمعية يهودية والسفارة الإسرائيلية عام 1994 وكانت جرت محاولات لطمس التحقيق فيها.
أين وحدة الساحات؟
اليوم يقف «الحزب» أمام مواجهة أكثر صعوبة. صحيح أنّه يحاول أن يكون له دور في الحرب الأمنية داخل إسرائيل من خلال نظرية وحدة الساحات بالتحالف مع حركتي حماس والجهاد الإسلامي ولكنه في الوقت نفسه يبقى خاضعاً لمفاعيل احترام قواعد الإشتباك التي ارتضى بها مع إسرائيل وكانت آخر تجلياتها في اتفاق ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل. صحيح أنّ اختراقات تحصل، كإرسال مسيرات من جانبي الحدود، أو إطلاق بعض الصواريخ الضالة والبلاهوية، ولكنّها تبقى ضمن حدود الإنضباط العسكري والأمني. وصحيح أنّ «الحزب» يقيم بعض الخيم في بعض النقاط الحدودية، ولكنّ الصحيح أيضاً أنّ إسرائيل سيّجت بلدة الغجر بالكامل. «الحزب» الذي استنكر هذا الفعل الإسرائيلي هل يذهب اليوم نحو حرب جديدة من أجل تغيير قواعد اللعبة في الداخل كما فعل قبل 17 عاماً وهو الذي هدّد ويهدّد دائماً بأنّه بات يمتلك القدرة العسكرية التي تمكّنه من تجاوز الحدود نحو المستعمرات الإسرائيلية والجليل وصولاً إلى القدس؟
نتائج حرب تموز 2006 لا تشجّع كثيراً على مغامرات مماثلة. والحزب يدرك أنّ أي مغامرة من هذا النوع قد تكون نتائجها مدمرة عليه في ظل تراجع وضعه الداخلي وعجزه عن فرض انتخاب مرشحه لرئاسة الجمهورية.