ناجية حتّى اللحظة
حتّى لحظة كتابة كلماتي هذه، ناجية أنا من فيروس كورونا، والحمد لله، ولكن ليس من تداعياته النفسيّة التي تزلزل كياني، وتتحكّم بيومياتي، وتجعل الخوف يلازم لحظاتي. مع إصابة كلّ زميلة وزميل في العمل، أخشى لعب ذاك الدور اللعين، ناقلة الفيروس إلى المنزل الآمن، أيام خمسة تفرضها طقوس الحجر ما قبل كلّ اختبار، وقلق مع ترقّب نتيجة كلّ فحص، خوف أحياه على نفسي بطبيعة الحال، ولن أدّعي الشجاعة هنا، وقلق على عائلتي وأهلي، وعذابات ضمير بنهاية كلّ يومِ عمل.
عام مضى على ذاك الفيروس الذي اجتاح عالم بني البشر، الخوف يتعاظم يومًا بعد يوم، جرّاء ارتفاع عدد الإصابات والوفيات على امتداد الجغرافيا البشرية. لا علاج للوباء بعد، والأخير يربح لعبة الوقت، يتمدّد ويطوّر سلالاته اللعينة، ليهدّد ليس وجودنا فحسب بل غاية وجودنا كبشر، يحيلنا إلى غرباء عن أقرب الناس إلينا، كلّ مصاب نعمل على نفيه خارج المجموعة والعائلة، ليطارد وحيدًا المرض والخوف في أكثر الأوقات حاجة للآخر، وفي حال لم تسعفه قدرته النفسية والجسدية على التغلّب على الفيروس، يموت وحيدًا، غرباء يتولّون مراسم مماته ومشهديتها المرعبة، حتّى أنّنا نبخل عليه بنظرة الوداع الأخيرة، خوفًا من انتقال العدوى إلى الأحياء بعد الموت، أو على الأقل هذا ما قالوه لنا، وبات عرفًا خارج النقاش.
في لبنان، الكارثة وقعت، عدّادٌ دراماتيكي آخذ في الصعود، يسجّل نسبة إصابات بلغت 25 % من مجمل الذين يملكون المال أو بعضًا منه لإجراء الإختبارات، أمّا أولئك الذين لا يملكون ما يكفي قوت يومهم، لا يتوجّهون إلى المختبرات مهما اشتدّت العوارض، قد يعرفون بإصاباتهم ويتجاهلونها، وقد لا يعرفون، الحال واحدة، فتكلفة الإختبارات للمصاب وأفراد عائلته باهضة، ولو كانت مجانيّة أو مغطّاة من الصناديق الضامنة لكانت تجاوزت نسبة الإصابات تلك المعلنة بكثير، هذا واقع يدركه المعنيّون جيدًا، ويمضون في تجاهله بكلّ راحة ضمير.
المشهد في المستشفيات تخطّى النموذج الإيطالي بأشواط، المئات من المرضى ليسوا على أبواب المستشفيات ولا في أروقتها، بل في مواقف السيارات التابعة لها، حياة أم وأب وإبن وإبنة وجدّ وجدّة معلّقة على جرعة أوكسجين، قد لا تصل في الوقت المناسب. الجسم الطبي والتمريضي أُنهك، استنزفته مواجهة الجائحة، وبعضهم سقط شهيدًا في أشرس المعارك. خارج المستشفيات، بين نقابتها وأصحابها من جهة والحكومة من جهة أخرى، جدلٌ عقيم حول تخصيص أقسام وأسرّة لمرضى كورونا. أمّا القرارات الحكوميّة فليست أفضل حالًا، تشرّع البلد حينًا لكلّ أنواع التجمّعات والسهرات والإحتفالات، وتقفله إقفالًا تامًّا حينًا آخر، بعد أن تدرك متأخّرة ويلات قرارها الأول. المواطنون بدورهم ليسوا أبرياء، بعضهم متواطىء ومساهم بنشر الوباء عن قصد أو جهل، ومشهديات الموت لم تقنع الجهابذة منهم أنّ كورونا ليس مؤامرة كونية، بل حقيقية مرعبة، تحصد الأرواح وتنهك الناجين.
إلى أن يصل اللقاح ويفعل فعله، سننتظر، لا نملك سوى الإنتظار، حرّي بنا في الوقت الفاصل، ألا نضاعف الإصابات والوفيات والعذابات، خصوصًا أنّ الوقاية ليست مستحيلة، بثلاثة إجراءات نحفظ حياتنا وحياة أحبّائنا، التباعد، الكمّامة والنظافة، ألا تستحق حياة من نحب أن نلتزم أساليب الوقاية؟
المصدر: لبنان 24