الموت بين الأهل نعاس. إنها كلمات مَثَلٌ لبناني معروف. وقد اتخذها الروائي الراحل جبور الدويهي عنواناً لرواية التصقت باسمه طويلاً. ولعل ذلك المثل اللبناني يجسد إحدى الصور الإنسانية الشائعة عن شَبَهٍ ما بين النوم والموت. “لم تمت الصبية. لكنها نائمة”. أورد المسيح تلك العبارة، بحسب الإنجيل، قبل أن يقيم من الموت فتاة كان أهلها يندبون ويلطمون لأنها فارقت الحياة. إنها صورة دينية كثيفة الجلال، يحضر في ظلالها الموت والنوم.
من المستطاع المضي طويلاً في قائمة فائقة الامتداد من مسارد تتحدث عن تداخل الموت والنوم، وهو جزء من الحياة. وربما برز في تلك القائمة مجموعة ضخمة من تجارب واسعة ومتعددة عمن عانوا ما يشبه سكرات الموت وبدا كأنهم يدنون من فراق الحياة، لكن الحياة كتبت لهم فتحدثوا كثيراً عما عايشوه. وفي لغة العلم، توصف تلك الحالات بمصطلح “تجارب الاقتراب من الموت” أو كلمة “موري باند” Moribund.
وقبل أيام، نشر موقع “الجمعية الأميركية لتقدم العلوم” تفاصيل تجربة صغيرة شملت أربعة أشخاص عبروا مرحلة “تجارب الاقتراب من الموت”، إذ توقفت قلوبهم عن الخفقان، لكنهم أسعفوا وأنعشوا واستمروا على قيد الحياة، ثم توقف إنعاشهم ورحلوا عن الدنيا. وقد سجلت الموجات الكهربائية لأدمغتهم أثناء تلك اللحظات، لأن الطب الحديث بات يربط الموت بتوقف القلب والدماغ معاً، إذ يستمر الأخير في العمل للحظات قليلة قبل الفراق الأخير.
وكذلك تبين أن ثمة أمراً مشتركاً بين تلك الأدمغة الأربعة تمثل في انبثاق مفاجئ لنشاط كهربائي في الدماغ، أثناء توقف القلب، يشبه ما يحدث أثناء الأحلام القوية، لكنه أيضاً يماثل ما يحدث أثناء الاستعادة المكثفة للذكريات.
وعلق الدكتور سام بارنيا، الاختصاصي في أحد المراكز الطبية التابعة لـ”جامعة نيويورك”، على تلك المعطيات معتبراً أنها ترصد “ما نعرفه عن معايشة الأحلام المتيقظة” في إشارة إلى نوع من الأحلام يكون فيه الشخص واعياً لحقيقة أن ما يراه في عين المنام هو حلم، بل قد يرى نفسه في مجريات تلك المرئيات الذهنية فكأنه ينظر إلى نفسه من خارجها. ويشار إلى أن الدكتور بارنيا لم يشارك في البحث المشار إليه عن أدمغة المتوفين الأربعة.
في ذلك الصدد، على رغم اتساع المعرفة التاريخية، إنسانياً وعلمياً، بظاهرة “الاقتراب من الموت”، إلا أن البحوث عما يحدث في الدماغ نفسه أثناء المرور بتلك التجارب قليلة تماماً. وقبل أشهر قليلة، ظهر بحث علمي رصد نشاط الدماغ في مجموعة أشخاص عاشوا تجربة “الاقتراب من الموت”. وأبدى الإعلام العام اهتماماً فائقاً بتلك التجربة ونتائجها.
وفي المقابل، لم يجر توثيق لما يحصل في الدماغ مع الانتقال من الحياة إلى الموت فعلياً، بحسب ملاحظة من البروفيسورة جيمو بيورغين. وتعمل بيورغن في “جامعة ميشيغن” الأميركية، وهي متخصصة في علوم الأعصاب.
ويعطي ذلك إضاءة أولى عن أهمية التجربة التي جرت على أربعة أشخاص مروا في معبر الـ”موري باند” وصولاً إلى الموت المحقق، على رغم صغر العينة التي شملتها.
موجات غاما ولغز الموت
وفي منحى قد يبدو أكثر تعقيداً، تركز عمل البروفيسورة بيورغين على أربعة أشخاص عانوا غيبوبة عميقة، واستمروا على قيد الحياة بفضل آلات الإنعاش الطبية، لكن الأطباء اعتبروا موتهم أمراً شبه محتم، بمعنى التدني الشديد لاحتمال العودة إلى الحياة الطبيعية. وبقول آخر، نُظر إلى هؤلاء على أنهم في معبر ما بين الحياة والموت، لكنهم يدنون حثيثاً إلى الفناء. وفي خطوة تالية، أوقف الأطباء عمل آلات الإنعاش الطبي، وبعد لحظات قليلة، توقفت الأدمغة الأربعة عن إظهار أي نشاط فيها، ما يعني أنهم انتقلوا إلى العالم الاخر.
ورصدت بيورغين بدقة الموجات الكهربائية لأشخاص الأربعة، خصوصاً في اللحظات التي تلت فصلهم عن آلات الإنعاش الطبي والتنفس الاصطناعي، ثم موتهم.
وأثناء تلك اللحظات الأخيرة من حياة أولئك الأربعة، التمعت في رسوم الموجات الدماغية تدفقات قوية من النوع المسمى “موجات غاما” Gamma Waves. ويعرف عن تلك الموجات أنها تحدث عند الأحياء الطبيعيين أثناء التعلم واستعادة الذكريات والأحلام المتيقظة، فينظر الطب إليها بوصفها من المؤشرات القوية على وجود حال من الوعي في الدماغ. وكذلك رصدت موجات غاما لدى الأحياء أثناء حدوث نشاط في المخ يتضمن ترابطاً بين مجموعة من المراكز المتخصصة فيه، على غرار استعادة ذكريات تشمل أصواتاً وروائح ومشاعر مكثفة.
وفي منحى فائق الأهمية، لا يعرف العلماء كيف يولّد الدماغ موجات غاما، خصوصاً عند أشخاص يمرون في “تجارب الاقتراب من الموت”، أو قبيل الموت فعلياً، على غرار الأربعة الذين شملتهم تجربة البروفيسورة بيورغين. وقد أورد موقع “الجمعية الأميركية لتقدم العلوم”، ذلك الملمح المتعلق بعدم معرفة العلم تفاصيل وافية عن موجات غاما وعلاقتها بنشاطات الدماغ المختلفة، بما في ذلك مرحلة المرور إلى الموت، استناداً إلى رأي علمي مفصل عن تجربة البروفيسورة بيورغين أدلى به الدكتور آجمال زيمار، المتخصصص في جراحة الدماغ والأعصاب في “جامعة لويسفيل” الأميركية.
بالتالي، خلص زيمار إلى التشديد على أن “الموت لغز. إننا لا نعرف ما يكونه بالفعل”.