موقفون بلا طعام.. المأساة اللبنانية تبلغ المخافر والأهل يعانون
نشر موقع “الحرّة” تقريراً يكشف عن واقع السجون في لبنان، مشيراً إلى أن الموقوفين بلا طعام وشراب.
وجاء في التقرير: “لم تكن المرة الأولى التي يجري فيها توقيف نجل “مريم”، لبنانية تبلغ من العمر 51 عاماً، إذ سبق للأجهزة الأمنية اللبنانية أن أوقفته مرتين من قبل، ولكنها المرة الأولى التي يرد لمريم اتصال من المخفر حيث أوقف ابنها، في منطقة البقاع، شرقي لبنان، يطلب منها بإلحاح، واستعجال، تأمين مأكل ومشرب للموقوف، لأنه جائع منذ 5 أيام بلا طعام، يأكل من بقايا طعام غيره من الموقوفين الذين يرسل إليهم الطعام من الخارج.
وسألت مريم المخفر عن الطعام الخاص بالمساجين والموقوفين، ودور الدولة في ذلك فكان الجواب “الدولة غير قادرة على إطعامه”
هي حال مئات الموقوفين في لبنان، ممن يعانون في نظارات التوقيف والمخافر وقصور العدل اللبنانية، من عدم تأمين الدولة اللبنانية لحاجاتهم الرئيسية بما فيها المأكل والمشرب والدواء، حيث باتت هذه المسؤولية ملقاة على عاتق الأهل والأقارب، حيث يضطرون إلى التنقل اليومي والدائم بين مناطق سكنهم وأماكن الاحتجاز، من أجل تأمين الحاجات الأساسية للموقوفين في المخافر والنظارات، وهو ما يؤكده محامون لبنانيون تواصل معهم موقع “الحرة
الدولة في عجز تام
وتروي “مريم”، التي رفضت الكشف عن اسمها الكامل لحماية ابنها من أي تبعات، كيف توالت الاتصالات عليها لاحقاً من المخفر بشكل شبه يومي، لطلب حاجات رئيسية للموقوف، يفترض أن تكون مؤمنة من قبل الدولة في مراكز احتجازها: “اتصلوا بي مساء ليلة عند الساعة الثامنة والنصف، يطلبون مني تأمين أدوية لوجع البطن ومسكنات، بسبب تعرض ابني لنوبة ألم في البطن والرأس. المخفر في منطقة بعيدة نحو نصف ساعة بالسيارة عن مكان سكني، وأنا أرملة ووحيدة ولا يمكنني التنقل خاصة في هذا الوقت مساء، ولكن في الوقت نفسه كانوا يضعونني أمام خيار أن ابني مريض في السجن ويتألم، ويقولون لي أنت أمه لا يمكنك أن تتركيه ولا يمكننا نقله إلى المستشفى لكون حالته تتطلب فقط أخذ الدواء اللازم، شعرت وكأنني آخر إنسان موجود يمكنه المساعدة”.
وأضافت: “شرحت لهم ظروفي، وقالوا لي إنهم حاولوا الحصول على الدواء من صيدليات قريبة دون أن ينجحوا بسبب إغلاق الصيدليات أبوابها وانقطاع الأدوية المطلوبة في باقي الصيدليات المتوفرة، لم يعد أمامي من خيار، رحت أبحث في الليل عن الدواء المنقطع وعن وسيلة نقل للوصول إلى المخفر بالدواء والطعام. نجحت عند الساعة 11:30 مساءً”.
وتابعت مريم: “سألت عناصر قوى الأمن لدى وصولي: هل ترضون هذا الوضع لأمهاتكم؟ أن يخرجن في منتصف الليل لتأمين طعام ودواء لموقوف لدى الدولة يفترض أن يكون من مسؤولياتها”؟
عناصر قوى الأمن أبدوا تعاطفا مع مريم وعرضوا مساعدتها لكنهم، وبحسب ما تنقل لموقع “الحرة”، عبروا عن عجزهم عن القيام بأي اجراء آخر في هذه الظروف التي يمر بها لبنان واللبنانيون والمؤسسات الرسمية والأمنية، التي باتت تعجز عن تأمين أبسط احتياجاتها.
وتقول مريم إن “أحد العناصر صارحها بعجز الدولة حتى عن تأمين أوراق بيضاء وكراسات تحقيق وأقلام حبر وأبسط الحاجات اللوجستية لعمل المخفر، وفيما كان العناصر يلبون حاجات بعض الموقوفين أصحاب الأوضاع الصعبة، كالمأكل والمشرب والسجائر والأدوية، من حسابهم الخاص، بات من المستحيل القيام بمثل هذه المبادرات الفردية، مع تردي الأوضاع الاقتصادية وانهيار القدرة الشرائية لرواتب العسكريين وقوى الأمن في لبنان، التي بالكاد اليوم تكفي العناصر للتنقل بين منازلهم ومراكز خدمتهم”.
وتختم مريم متسائلة “ماذا لو عجزت غداً عن تأمين دواء آخر؟ ماذا لو كان جائعا ولم يتمكن من الاتصال أو إبلاغنا أو عجزنا نحن عن تأمين الطعام المطلوب؟ إن كانت الدولة عاجزة عن القيام بمتطلبات السجناء والموقوفين، لماذا لا يطلقون سراحهم؟ الأمر غير منطقي بتاتاً ألا يكفينا هم السجن والقضية والمحامين.. بات علينا ايضاً أن نهتم بالطعام”؟
ويعيش لبنان، منذ أواخر 2019، واحدة من أسوأ أزماته الاقتصادية، مما أدى إلى انهيار العملة الوطنية في البلاد أمام الدولار، بتراجع نحو 15 ضعفاً عما كان عليه سعر الصرف، (من 1500 ليرة للدولار إلى 20 ألف ليرة)، وهو ما انعكس انهياراً في القدرة الشرائية للراتب المصروف بالليرة اللبنانية، حيث بات الحد الأدنى للأجور لا يتجاوز الـ30 دولارا.
اكتظاظ السجون يملأ النظارات
وتعتبر النظارات ومراكز التوقيف التابعة للأجهزة الأمنية محطات مؤقتة، يتم فيها احتجاز الموقوف لمهلة زمنية محددة بالقانون اللبناني (من 24 إلى 48 ساعة)، ومن بعدها يكون بيد القضاء والنيابات العامة، إما إطلاق السراح أو تحويل الموقوف إلى السجن للمحاكمة.
لكن لبنان يعاني تاريخياً من أزمة اكتظاظ في سجونه، ناتجة عن اعتماد مركزية السجون وقلة عددها في لبنان وفشل مشاريع التوسعة وإعادة تنظيم السجون التي تبنتها الحكومات المتعاقبة، إضافة إلى مشكلة تأخير مزمن لدى القضاء في البت بالقضايا نتيجة مشاكل بنيوية ولوجستية وأخرى مرتبطة بالعديد المنخفض للقضاة في لبنان، مقابل ارتفاع كبير في حجم القضايا.
هذا الحجم تضاعف خلال العامين الماضيين مع الأزمة التي يشهدها لبنان التي أدت الى ارتفاع كبير في معدلات الجريمة، بلغت بحسب أرقام قوى الأمن الداخلي في الفصل الأول من العام 2021، معدل 23,88 ارتكاب جرمي يسجل في اليوم الواحد في لبنان، مما يعادل جرما كل ساعة تشهدها البلاد التي لا يتجاوز عدد سكانها الـ 5 ملايين.
كل هذه المعطيات أدت لاكتظاظ السجون اللبنانية بالمساجين، وباتت تستقبل أضعاف الأعداد المحددة لها، ما حول أيضاً نظارات التوقيف إلى سجون دائمة للموقوفين، يمضي فيها البعض أشهراً دون رؤية الشمس، أو الحصول على أدنى حقوق المساجين.
هذه النظارات غير مؤهلة لتكون سجوناً دائمة ولفترات طويلة من حيث ظروف المعيشة فيها، حيث لا تستوفي الشروط الدولية والقانونية لأماكن السجن، ولا تتوفر فيها المعايير اللازمة لبيئة الاحتجاز المتوافقة مع حقوق الإنسان والمساجين، إن كان لناحية المساحة والسعة، أو لناحية التهوية وتعرضها للشمس، وحتى من ناحية توفر الأسرة والبطانيات والمياه والصرف الصحي والحمامات، والنظام اللازم لإعادة تأهيل السجين أو تنفيذ عقوبته التأديبية.
الدولة لم تفكر بالطعام
“المشكلة الأساسية” بحسب ما يؤكد مسؤول العلاقات العامة في المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي العقيد جوزيف مسلم، في اتصال مع “الحرة”، أنه ما من ميزانية مرصودة في الدولة للنظارات وحاجات الموقوفين فيها، ففي النظارات ليس من مسؤولية قوى الأمن أو الدولة تأمين الطعام ومتطلبات الموقوفين، وعادة الأهالي من يحضرون حاجات الموقوف من مأكل ومشرب وملبس.
ويضيف مسلم: “حين بدأت مدة التوقيفات تطول في النظارات بدأ يجري البحث عن مصادر تموين وتأمين طعام لها، لكن هذا الأمر لا ينطبق على كل النظارات في لبنان، فكل نظارة لها حالتها المنفردة، هناك نظارات تغطيها مطابخ السجون، ولها مصدر طعام، وهناك نظارات أخرى ليست مشمولة ونعمل دائما على تأمين مصادر طعام لتغطية كافة النظارات، ولكن هناك أماكن لا قدرة لنا فيها على ذلك، في كثير من الأحيان يحضر العسكريون معهم طعاما من منازلهم أو يشترون من جيوبهم حاجات للمساجين، من منطلق إنساني غير مفروض عليهم، خاصة بالنسبة للنازحين السوريين، وأولئك المتروكين، أو من لا أهل وأقارب له في الخارج، وفي فترة معينة بتنا نؤمن ثياباً وطعام وكل ما يلزم لحالات معينة، بالتعاضد بين العناصر وتقاسم التكلفة فيما بينهم”.
ويرى “أنه أمر طبيعي أن تتواصل المخافر مع أهالي أو أقارب الموقوفين وأن تطلب الطعام منهم، فالأهل هم المسؤولون عن ولدهم طالما هو موقوف في النظارة ولم تتم محاكمته أو تحويله إلى السجن. فيما مضى كان الأهل هم من يطلبون إيصال الطعام لأولادهم في سجن رومية مثلا، ونحن في قوى الأمن أوقفنا ذلك لأسباب أمنية وبات الطعام مؤمنا في السجن، لكن الأمر يختلف في مراكز التوقيف”.
مسلم استمهل وقتاً من أجل تقديم أرقام ومعلومات حول النظارات المشمولة بتأمين الطعام وغير المشمولة به والحصول على مزيد من التفاصيل حول أوضاع مراكز التوقيف من المسؤولين عن الموضوع مباشرة، وبحسب معلومات “الحرة” فإن النظارات الواقعة ضمن نطاق بيروت، يصلها الطعام من “ثكنة بربر الخازن” ومصدرها مطبخ سجن رومية، لكن الأمر لا ينطبق على جميع المناطق حيث يعاني أهالي الموقوفين في تأمين حاجات أبنائهم خلف القضبان.
وتشير المعلومات إلى أن الطعام لا يزال يصل إلى نظارات التوقيف ضمن نطاق بيروت، لكن، ومع اشتداد الأزمة، تغيرت نوعية الطعام التي كانت تصل، وانخفضت الكميات، كذلك تدنت جودة الطعام، وهذا الأمر ناتج من جهة عن انعكاس الأزمة في سجن رومية حيث المطبخ، ومن جهة أخرى هناك متعهدون يتولون أمر تأمين الأطعمة، عمدوا إلى تغيير النوعيات بما يتلاءم مع الاتفاق المبرم مع الدولة والمبالغ المرصودة لهم وقيمتها اليوم.
أما في المناطق فالوضع أسوأ، هناك يبدأ الاتكال على الأهل في القرى والبلدات لتأمين طعام أولادهم، حيث لا يصل لتلك المخافر البعيدة ومراكز الاحتجاز أي تموين أو طعام، ويتخلف المتعهدون عن التزاماتهم، وتصبح الأمور بيد المخفر وعناصره الذين يعملون على تأمين حاجات الموقوفين لديهم بالطرق البسيطة التقليدية كالاتصال بالأهل والأقارب أو الجمعيات المعنية بمساعدة السجناء، أو من منازلهم حيث يقومون بإحضار بعض الطعام للموقوفين المتروكين، وتوزيع الطعام الذي يصل لبعض النزلاء على الجميع، وهذا الأمر معتمد منذ ما قبل الأزمة نظرا لعدم صرف ميزانيات خاصة لمراكز التوقيف المؤقتة.
lebanon24