نُكاحٌ بالقرب مِن قسطَل مَهجور
“ليبانون ديبايت” – روني ألفا
أبحثُ عمَّن يَشتري الحزنَ في لبنان. صار لدينا ما يكفي منه في إهراءاتِ مآسينا. تنزيلاتٌ هامَّة لِكلّ مَن يَرغَب بهِ مملَّحاً زِيادَة. دموعُنا باتت تتفجَّرُ أنهاراً وتروي صحراءَ الرّبعِ الخالي وصَحراءَ نيفادا معاً. كلُّ ما في لبنان يُبكي. البكاءُ صارَ وجبةً يومية. نَحتسي دموعَنا في فَناجينِ صباحاتِنا الرّتيبَة. نشربُها عندَ العَطش ونجمعُها بِعنايَة للأيامِ السّود. وحدها الدموعُ اللبنانية تُذرَفُ دون أن تلفتَ أنظارَ أَحد. كأنها تَسَرُّبُ مِياهٍ مِن قسطَلٍ مَهجور. صارت ماركةً مسجَّلة متوافرةً في كلِّ البيوت. هزَّ أيّ إناء، أيّ سِتارَة أي شرشَف طاوِلَة تنهَمِرُ منه دُموع. مَن لا يَبكي في بلادِنا من عينيه يَبكي من قلبه. من حنجرتِه ومن النَّهدات. حتى السكوت تَعلَّمَ البكاءَ في لبنان. في كلِّ مرةٍ تخرجُ فيها من بيتِك تكادُ تتزحلقُ على بركةِ دموعٍ متروكةٍ هنا قربَ المرفأ. هناك قربَ مدفنِ شَهيد. هنالكَ قربَ جهازِ تنفُّسٍ في مُستشفى حكومي. بكاءٌ على كرامتِنا واستقلالِنا بدموعٍ ما عادت تَفطرُ قلبَ أَحد. حتى أنفُسُنا ما عادت تُصَدِّقُ بكاءَنا على أنفسِنا.
نَبكي على دولتِنا المراهقة. دولةٌ نَمى قليلٌ من حَبِّ الشباب على خدّيها فظنَّتْ أنها سَبع البورومبو وبدأَتْ بالخبيطِ واللبيط. وبرُ لِحيَتِها الطري حَسِبَتهُ وَقاراً. لم تتركْ أحداً من شرّها. اغتصَبَت كلَّ مَوهبة. هجَّرَت كلَّ الأدمغة وأحاطَت نفسَها بفِرقَة حَسَبَ الله للتَّهريج ونقابَة شعراءِ البَلاط. دمَّرَتْ وسرقَتْ وأفسَدَتْ من العَبدِة الى النَّاقورة حتى حوّلتِ السلطةَ إلى إسطبلٍ والمؤسساتَ إلى جوَرٍ صحيَّة. من استمَعَ الى مؤتمر ماكرون الصحافي يبررُّ لهُ هذه القسوة في التعبير. بالطبع اعتمدَ الرئيس الفرنسي الشاب لغة إستِعماريَّةً مَمجوجة. لكنِّنا نستحقُّ أكثرَ من ذلك. نستحقُّ جزمةً عثمانيةً فرنسيةً سوريةً مُشتركة. جزمةٌ لَبطَتُها تقتلُ وريحَتُها تُفَطِّسُ وآثارُ كَدماتِها على أجسامِنا تدومُ وتَدوم.
نحنُ لسنا شَعباً. حانَ الَوقتُ للإعتراف بذلك أمام الله وأمامَ الأُمَمِ التي تلعَبُ فينا. نحنُ زمرَة. فَريقُ رُوغبي تَدَرَّبنا على النّكاح والنّطح. جَواميس فالِتَة في بَلدنا تتناسَلُ وتَرعَى مِن دونَ اي هَدَفٍ حَضاري. قَدَرُنا أن نَحيا إذا زَمَطْنا مِن بنادِقِ الصيّادين. إذا أصابَنا خَرطوشُهُم تحوَّلْنا في الليلة ذاتِها إلى مَحاشي ومَقادِم وفوارِغ وطنيَّة. دستورُنا خبزٌ عَفِنٌ وأغلَبُ رِجال دَولَتنا قراصِنَةٌ وقطّاعُ طرق وأُمراءُ حَربٍ ومرتَزَقَة. فتِّشْ عَن لبنانيٍّ واحِدٍ في لبنان تَكادُ لا تَجِد أحَداً. تَجِد كل جِنسيّاتِ العالَم ولَكِن لا تُجهِد نفسَك بالتّفتيش عَن لبنانيٍ واحِد. اللبناني انقرَض. صارَ مثلُه مثلُ الدبِّ القطبي ينامُ ستَّةَ أشهرٍ في السّنَة ويَصحو ستَّةَ أشهرٍ ليفتّشَ عَن لقمَةٍ وقضمَةٍ ومؤونَةٍ تَرميها لَه جمعياتُ المجتَمَعِ المَدني مِن فَضلاتِ مَوائِد العالَم. قَريباً جداً ونصبِحُ البلدَ الأول في معدّلاتِ الجَريمَة. الناس ستقتلُ مِن أجل كَسرَة خبز ومِن أجل علبَة حَليب.
وسطَ هذه الدّموع لا يغيبُ عَن بالِنا أننا بلَدٌ متخصّصٌ بالدّفن. نحنُ نحمِلُ مَدافِنَنا في سياراتِنا وفي بيوتِنا ومفاتيحِنا. كلُّ ما فينا يَفوحُ مقابِر وجَثامين. نحنُ قوماً متنا مِن زَمان ونرفضُ تَصديقَ مَن يبلِغَنا بِوفاتِنا. مثاوينا تنتَظِرُ قِيامَةً تأخّرَت. ربّما لا نستحِقُّ القيامَة. قَد لا تقومُ لَنا قائِمَةٌ بعدَ ما فَعلناه ببلَدِنا. فَلنُقبَر مؤبّداً وليَكُن ذِكرنا مَلعوناً في الدنيا وفي الآخِرَة. لعنَة الولادَة في هذا البَلَد أسوأ مِن لعنَة الفَراعِنَة ومِن لعنَة إختِفاء الشّمس. لا شيء سِوى سدوم وعامورَة يمكن أن ينشلَنا. لَو كانَ دانتِه بَيننا لمزَّقَ كتابَ ” الجَحيم ” وكتَبَ قصَّتَنا. نحنُ جحيمُ الأرض. فلنَحتَرِق بِسلام.