مات حُزناً على بيروت: أرديم نانيجيان ضحية جديدة لانفجار المرفأ
يحضر الموت في لبناننا بوتيرة مؤلمة سريعة الإيقاع، وتتراكم ضحايانا تراكم عقود من الإجرام والإهمال بحقّ المواطنين… وبعد انقضاء سبعة أشهر على محرقة الشعب الكبرى “بيروتشيما”، إلتحق الناجي “أرديم نانيجيان” ابن الـ57 عاماً بدائرة الشهداء بعدما نحت انفجار مرفأ بيروت في روحه فجوة بحيث لا يتّسع علاج. شيّعت بيروت فقيدها الشاب الذي “مات حُزناً” وأزهق انعدام الأمل في لبنان كيانه، ودمّره تحطم منزله وتهدّم متجره وفقدان كل ما أحبه من محيط وأقارب.
“بعد الإنفجار فقد أرديم شعوره بالأمان وقدرته على الإطمئنان، بات شعور السلام صعب المنال لديه وتوالت انكساراته مع خذلان الدولة له، وتقصيرها في إعادة إعمار منطقته، ومساندته حتّى نفسياً. حبّ لبنان أرداه ميتاً”، قالها ابن عمه رافي نانيجيان لـ”نداء الوطن” بغصّة، وتابع “كان جميل الروح يربطني به الدم والذكريات الحلوة، والنقاشات السياسية. كان من سياديي 14 آذار وممثّلاً لحزب الرمغافار اللبناني الأرمني في التجمّع، كان “الحبّوب” الخدوم الذي يطالب بلبنان حرّ سيّد مستقلّ شامخ، كما كان مندفعاً ومنخرطاً في العمل الإجتماعي والسياسي، مكافحاً للقمة العيش الكريم، كأيّ شاب لبناني. أيام شبابه، سافر إلى بلجيكا وعاد منها ليستقرّ في لبنان مع من أحبّ، كما أنجب ابنة هي اليوم عشرينية يافعة. عطاؤه لا يوصف، شقّ حياته في لبنان بصعوبة بحيث لم يتوظّف في قطاع الهندسة التي تخصّص بها، ولم يجد أرديم فرصة عمل، كما حاول العمل في مجالات عدّة لكنّ الأوضاع لم تكن لصالحه إلى أن قرّر العيش في إحدى شقق بناية العائلة في الجمّيزة، حيث فتح متجــراً بيطرياً لبيع لوازم الحيوانات”.
فقد أرديم في الرابع من آب أعزّ ما يملك وأحبّ الأصدقاء إليه وأحنّ الجيران إلى قلبه، وبلحظة لا عودة منها وقع كلّ شيء وبقي هو مضرجاً بدمائه حبيس قفصه الصدري، ينظر إلى الشظايا والدمار، وكل ما تبعثر مع النيترات من جنى عمره أمام ناظريه وبدأت الوطأة النفسية التي رافقته طيلة الأشهر الماضية”. وأردف رافي: “حاولنا دعمه وإخراجه من دوامة الندم والتعب النفسي إلا أنّ وجعه كان أقوى بكثير وأعظم من كلماتنا التي لم تقنعه، كان ذكياً جداً ويعلم أنّ ما فقده ليس سهل الاسترجاع، وكان ذلك أعنف من قدرتنا على التصدّي لهذا الألم ولإهمال السلطات اللبنانية لأمر أهالي الشهداء، ولأمره، والكلّ رأى كيف انتشل اللبنانيون بعضهم بعضاً بعيداً من الدولة التي لم تحاسب أحداً ولم تقف عند مسؤولياتها ولم يتقدّم أي من رجالاتها ولو حتّى باعتذار. وعليه، تدهورت صحّة أرديم النفسية وبدأ يعاني من الأنسومنيا، أو القلق وعدم النوم المتواصل، وتوقّف عن الأكل وفقد حواسه شيئاً فشيئاً ومن ثمّ قدرته على التحكّم بجسده إذ لم يستطع المشي لفترة، ليفقد في ما بعد قدرته على الوقوف أيضاً، ثمّ تمّ نقله إلى العناية الفائقة وقضى شهيداً جديداً لانفجار المرفأ نهار السبت”. “حالة أرديم هي مثال على العواقب الطويلة الأمد لانفجار بيروت على اللبنانيّين”، هكذا نعتته ساناحين كاسابيان على فيسبوك، مضيفةً: “لا يزال الآلاف من الناس يعانون من عواقب هذه التّربة المؤلمة. الصدمات النفسية والعاطفية يمكن أن تقتل الناس أيضاً”.
وفي حديث هاتفي مع المعالجة النفسية العيادية نيكول عبسي هاني، أكدت لـ”نداء الوطن” أنّ العام الفائت كان عاماً ثقيلاً على اللبنانيين وفرض مشقّات لا تعدّ ولا تُحصى عليهم، من جائحة “كورونا” إلى تدهور مستوى المعيشة مع انهيار قيمة الليرة وأزمة الدولار، إلى ارتفاع الكلفة وخسران الوظائف وارتفاع نسب الطلاق والعنف الجندري والفقر حتى أتى انفجار المرفأ ليبرح كلّ اللبنانيّين صفعةً نفسيةً واحدة تهد كيانهم أطفالاً ونساءً ورجالاً… وجعلتهم بأمسّ الحاجة للمتابعة النفسية. لكن، وبما أنّ حتّى صحّة المواطن أصبحت غالية عليه مع فلتان تسعيرات العلاج النفسي ووصولها الى حدّ الـ300 ألف ليرة بعكس التسعيرة الرسمية في الوزارة “100 ألف” وغياب الرقابة الوزارية، بات العلاج النفسي العيادي من الكماليات، بالرغم من أنه من الضروريات بخاصة الآن، أما النقابة فللأسف لا يمكنها أن تفرض تسعيرة موحّدة لأنها ليست نقابة إلزامية”. تتابع هاني “هول صدمة الانفجار لا يزال يلعلع حتّى اليوم في أرجاء بيروت المدمّرة. فالأضرار النفسية لم تعطَ أهميّة كافية من الدولة وقلّة هم من تلقّوا متابعة نفسية. وهنا نحيي كلّ الجمعيات الخيرية الأجنبية والمحلية التي تُعنى بالصحّة النفسية والتي تدخّلت للمساعدة المجّانية، إلا أنّ ذلك بالطبع لا يكفي، بحيث يجب على الدولة إنشاء مرجع وخلية من الأخصائيين لمتابعة جميع المتضرّرين، ردءاً للفاجعة ولموت أشخاص أبرياء كأرديم. فأهمّ ما يمرّ به الأشخاص بعد حادثة كهذه هو أنه تنفجر كلّ الأزمات النفسية المتراكمة الكامنة في النفوس، لتصبح في بعض الأحيان شبحاً لا يترك ظلّ صاحبه، كاضطراب ما بعد الصّدمة الذي يظهر بسلوكيّات عديدة، بدءاً بالامتناع عن الأكل والكلام والنّوم وصولاً إلى الإرهاق الجسدي”.
نحسب أنّ في الموت راحة، ولراحة نفس أرديم ورفاقه شهداء مرفأ بيروت نصلّي. وأياً كانت ادعاءات المنهمكين في التعطيل والتجاذب، فإنّ الشعب باق، وتماسكه مستمرّ، وسيلفظ من دمّر بيروت وقبضت يداه على خناقها، أنفاسه الأخيرة يوماً ما، حيث لا رأفة به ولا من يحزنون.