التوازنات السياسية تجعل أيّ نقاش قانوني بلا طائل.. الوزراء سلاطين بحماية مجلس النواب
كتب ايلي الفرزلي في “الأخبار”: في ظلّ انكماش النظام، يصبح الحديث عن علل موضعية في الدستور أو القانون بلا طائل. ما طرحه رئيس الجمهورية عن معضلتَي تفسير الدستور وتمردّ الوزراء على القانون محقّ. لكنّ رئيس الجمهورية يدرك أن النص ليس هو الحكم بين اللبنانيين. ما يسود هو لغة المحاصصة والتوازنات السياسية، وباسمها يُنتهك الدستور والقانون، ويصبح طرح الثقة بالوزراء المخالفين ضرباً من المستحيل
إن كان النقاش بشأن الجهة الصالحة لتفسير الدستور قديماً، إلا أنه كلما فُتح حمل معه زوبعة من التعليقات والردود. الرئيس نبيه بري يقف دائماً بالمرصاد، حاسماً أن مجلس النواب هو الجهة المخوّلة تفسير الدستور، على اعتبار أن من يحق له تعديل الدستور يحق له حكماً تفسيره. في المبدأ قد يكون ذلك صحيحاً، لكنه لم يُسجل في النص الدستوري. ما حصل في جلسة تعديل الدستور، التي عُقدت في 21 آب 1990، أن المجلس رفض منح المجلس الدستوري صلاحية تفسير الدستور التي كانت وردت في وثيقة الوفاق الوطني، لكن من دون أن يعطيها لغيره.
إلا أن بعض النواب اعتبر حينها أن هذه الصلاحية تذهب تلقائياً للمجلس النيابي. منذ ذلك الحين، يتبنّى رئيس المجلس هذا التفسير ويُصرّ عليه. لكنّ المشكلة التي واجهها المجلس هي أن لا آلية واضحة للتفسير، فهو لا يمكن أن يصدر بقانون، ولا يكفي أن يجتمع المجلس النيابي ويُفسّر مادة دستورية، ثم يسجل التفسير في المحضر. هكذا خطوة لا يمكن اعتمادها أمام أيّ جهة قانونية معنية. الطريقة الوحيدة لتشريع أيّ تفسير للدستور هي بإدخاله في صلب النص الدستوري، من خلال تعديل دستوري يحتاج إلى ثلثَي أعضاء مجلس النواب. ولأن مجرد المسّ بالدستور يثير حساسيات طائفية لا تنتهي، يُدار البلد بالتوازنات السياسية.
ما قاله رئيس الجمهورية، بغضّ النظر عن خلفيته، محقّ، بحسب أحد أعضاء المجلس الدستوري. لكن مع ذلك، يؤكد المصدر أن عون لم يدع المجلس إلى تفسير الدستور كما تردّد، «فما ورد كان في سياق إشارته إلى اقتناعه بأنه لا يجوز أن يقتصر دور المجلس على مراقبة دستورية القوانين فحسب، بل كذلك تفسير الدستور وفق ما جاء في الإصلاحات التي وردت في وثيقة الوفاق الوطني التي أُقرت في الطائف عام 1989». وهذه قناعة يتشاركها الكثير من الدستوريين، الذين يعتبرون أن إعطاء هذه الصلاحية للمجلس النيابي، في ظل الصراعات السياسية والطائفية عطّل أي إمكانية لتطوير النظام أو حتى فكّ العقد التي تواجه عمل المؤسسات. تكفي الإشارة إلى السلبيات التي تنشأ عن عدم وجود مهلة لرئيس الجمهورية للدعوة إلى الاستشارات النيابية وعدم وجود مهلة لرئيس الحكومة المكلف لتشكيل الحكومة.
بعيداً عن كل العوائق الدستورية والسياسية، يمارس المجلس هذه الصلاحية بشكل غير مباشر. بمجرّد أن ينظر في دستورية القوانين فهذا يعني أنه يفسر النصوص الدستورية ليقرر ما إذا كانت القوانين المطعون بها مخالِفة لهذه النصوص أم لا. وهو أمر أكّد عليه عون في كلامه أمام وفد المجلس الدستوري الذي زاره منذ أيام. وقد استدعى ذلك رداً من رئيس المجلس النيابي الذي أشار إلى أن «دور المجلس الدستوري هو مراقبة دستورية القوانين، من دون أن يتعداها إلى تفسير الدستور، الذي بقي من حق المجلس النيابي دون سواه. وهذا أمر حسمه الدستور ما بعد الطائف، بعد نقاش خُتم بإجماع في الهيئة العامة».
مسألة تفسير الدستور تبقى واحداً من العوائق التي يواجهها دستور الطائف، لكنها ليست الوحيدة. منذ تحول الوزير إلى سيد على وزارته، ضعفت الإدارة لمصلحة شخص الوزير الذي صار فوق المحاسبة عملياً، لأن آلية محاكمته معقّدة وآلية نزع الثقة عنه تكاد تكون مستحيلة في ظل الواقع اللبناني. عون كان أثار أيضاً إشكالية أخرى تتعلق بوجود ثغرات في النصوص التي تحدّد صلاحيات الوزراء، ولا سيما أولئك الذين يتقاعسون عن تنفيذ القانون ويمتنعون عن تطبيق قرارات مجلس الوزراء ومجلس شورى الدولة إضافة الى تجميدهم مراسيم ترتّب حقوقاً لمستحقيها، وذلك خلافاً لأي نص قانوني أو دستوري.
تلك الملاحظة لطالما تردّدت بين النواب. لجنة متابعة القوانين غير المنفّذة التي يرأسها النائب ياسين جابر سبق أن سعت إلى إيجاد حل لهذه المعضلة. أكثر من ٥٠ قانوناً أقرّها المجلس وكان مصيرها الجوارير لأن مراسيمها التطبيقية لم تصدر. يقول جابر إنه تقدم مع زملاء له بأكثر من اقتراح قانون لمواجهة السلطة الاستنسابية التي يمارسها الوزير، كما جالوا على الوزراء المعنيين وعلى الرؤساء لعرض المشكلة، إلا أنّ شيئاً لم يتغيّر. على سبيل المثال، كان هنالك اقتراح بأن يتولى مجلس الخدمة المدنية مهمة إجراء اختبارات للمرشحين إلى بعض الوظائف والمجالس، في محاولة لإنهاء تحكّم الوزراء بالتعيينات ولإنهاء بازار المحاصصة الذي يُفتح عند كل تعيين، إلا أن جهات عدة وقفت للاقتراح بالمرصاد بحجة تشكيله اعتداءً على صلاحيات الوزراء. يقول جابر إن هذه الحجة استعملها رئيس الجمهورية نفسه لردّ قانون التعيينات الذي أقره مجلس النواب أخيراً.
الصلاحيات التي يمارسها الوزراء تحوّلت مع الوقت إلى سلطة تعطيل. هؤلاء لا يكتفون بتعطيل تنفيذ القوانين بل يعطّلون قرارات مجلس الوزراء أيضاً. نظرياً، لا فارق دستورياً بين الوزير بشخصه وبين الحكومة، على ما يفرضه مبدأ التضامن الوزاري. لكنّ هذا المبدأ ينتفي أمام «المجالس السياسية» التي تتألف منها الحكومة. ولذلك، صار عادياً أن يخالف وزير قرارات مجلس الوزراء أو يرفض تنفيذها، متسلّحاً بتمثيله السياسي لا بقوة القانون.
تحميل السلطة التنفيذية مسؤولية التقاعس يجافي الواقع. صحيح أنها هي المسؤولة نظرياً، لكنّ السلطة التشريعية لم تفعل شيئاً إزاء هذا التقاعس. وهذا بديهي في ظل التوازنات نفسها التي تحكم السلطتين معاً. دستورياً، يقول الخبير الدستوري وسام اللحام: «إذا كانت السلطة التنفيذية تعرقل أو تعطّل قرارات مجلس النواب، فإن ذلك يستدعي مبادرة المجلس إلى طرح الثقة بالوزير المعني أو بالحكومة مجتمعة، إلا أن ذلك لا يحصل. وبناءً عليه، يعتبر اللحام أن النقاش القانوني في المسألة خطأ، لأن المشكلة في التوازن بين الزعماء الذين يعطّلون الدولة. ولذلك، فإن دعوة عون إلى إيجاد نصوص تمنع أيّ التباس في مسار عمل الوزراء، ستبقى دعوة بلا طائل طالما أن المشكلة ليست في القانون.