تفاصيل العرض الفرنسي للبنان: Take It or Leave It
كتب علي نور في “أساس ميديا”:
بعيداً عن الأضواء، وبالتوازي مع المبادرة السياسيّة التي كان يطلقها ماكرون على الساحة اللبنانيّة، كانت فرنسا ترسم للبنان خارطة طريق متكاملة ليخرج لبنان من نفق الانهيار المالي، وفقاً لرؤية ساهم في إعدادها مختصون من وزارة الخارجيّة ومديريّة الخزينة والمصرف المركزي ومجلس النواب في فرنسا. ووفقاً لما نقله زوّار العاصمة الفرنسيّة لـ”أساس”، فقد بات المسؤولون الفرنسيون يتحدّثون اليوم في أدق تفاصيل الأزمة الماليّة اللبنانيّة، معبّرين عن اقتناعهم بأن الخطّة التي تطرحها باريس اليوم تمثّل آخر ما يمكن أن يراهن لبنان عليه لفتح باب المساعدات الماليّة، سواء من صندوق النقد أو من غيره من المؤسسات والجهات المانحة.
في العناوين العامّة، لا تبتعد النظرة الفرنسيّة كثيراً عن أولويات صندوق النقد الدولي، لكنّ الفارق يكمن في تعمّق الفرنسيين وتدخّلهم في أصغر تفاصيل المعالجات التي كان يجري الحديث عنها، وفي طبيعة الكباش المحلّي الذي كان يحول دون التوصّل إلى تفاهم عليها. ولذلك، تراهن فرنسا اليوم على قوّة مبادرتها في لبنان، وعلى الزخم الاستثنائي الذي سيعطيه دعمها للحكومة المقبلة، لتذليل كلّ هذه العقبات، وفتح الباب أمام إقرار كلّ هذه المعالجات ضمن خطّة واحدة.
خارطة الطريق الفرنسيّة تبدأ قبل كلّ شيء من قانون الكابيتال كونترول. فبحسب جميع الاجتماعات التي عقدها المسؤولون الفرنسيون مع زوّارهم اللبنانيّين، لن ينال لبنان دولاراً واحداً من القروض أو المساعدات قبل إقرار هذا القانون ودخوله حيّز التنفيذ. علماً أنّ هذه النظرة الحاسمة والمتشدّدة في موضوع الكابيتال كونترول تتشاركه فرنسا مع جميع الدول والمؤسسات المانحة الأخرى، وهو ما يؤكّد أن لبنان لن يتمكّن من التملّص من هذا الملف في الأسابيع القليلة التي ستلي تشكيل الحكومة.
مصادر لجنة المال والموازنة النيابيّة كشفت لـ”أساس” أنّ اللجنة قرّرت ترك ملف مشروع القانون بأسره للحكومة الجديدة، ولم تقدم خلال الفترة الماضي على وضع أيّ صيغة جديدة للمشروع. لكن في كلّ الحالات، من الواضح أنّ صيغة الكابيتال كونترول الذي يتحدّث عنه الخبراء الماليون الفرنسيون اليوم بات يختلف جذريّاً عن جميع الصيغ التي جرى طرحها سابقاً في لبنان، سواء في مجلس الوزراء أو في المجلس النيابي. فعمليّاً، لا يُفترض أن تقتصر مسألة الكابيتال كونترول على بعض الضوابط المفروضة على سيولة المصارف والودائع لديها، بل ينبغي أن تنظّم كلّ ما يتعلّق بسوق القطع أيضاً، بما يكفل إلغاء أسعار الصرف المتعدّدة، والتوصّل إلى سعر صرف موحّد معمول به في النظام المالي الرسمي. ولعلّ التعقيد التقني الذي يحيط بهذه المسألة تحديداً، هو ما دفع لجنة المال والموازنة إلى انتظار الحكومة العتيدة، لتقارب الملفّ كجزء من خطة متكاملة يعمل عليها متخصّصون بالتنسيق مع الجهات الداعمة في الخارج.
في الواقع، سيكون أمام الحكومة الجديدة مهلة زمنيّة قصيرة جدّاً لإطلاق مسار العمل على مرسوم مشروع القانون. فوفقاً لما نقله لـ”أساس” زوّار بيار دوكان، الموفد الفرنسي المكلّف بتنسيق الدعم الدولي للبنان، من المفترض أن يعقد الفرنسيون المؤتمر الدولي لدعم لبنان في النصف الثاني من شهر تشرين الأوّل المقبل، وعلى الحكومة الجديدةة أن تكون قد أحالت مرسوم مشروع القانون إلى المجلس النيابي من أجل إقراره قبيل منح المساعدات. مع العلم أنّ عدم إقرار القانون في ذلك الموعد، سيؤثّر كثيراً في مستوى الدعم الذي سيتمكّن لبنان من الحصول عليه. وغياب قانون الكابيتال كونترول سيؤثّر في الثقة بمصير أيّ دولارات يمكن أن تضخّ إلى النظام المالي اللبناني.
الركن الآخر من أركان الخطة الفرنسيّة، ينطلق من مسألة التدقيق في حسابات المصرف المركزي، إلى حد أنّ بيار دوكان أبلغ وفد جمعيّة المصارف في اجتماعها الأخير معه منذ أيام ما حرفيّته التالي: “عدم التدقيق في ميزانيّات مصرف لبنان سيعني اختفاء لبنان”. رفع النبرة بهذا الشكل في ما يخصّ التدقيق، ليس سوى مؤشّر على الاهتمام الذي يوليه الفرنسيون لكشف تفاصيل الحقبة السابقة، ربما لمعرفتهم بأن عدم الإقدام على تحقيق شفّاف في أرقام مصرف لبنان سيمثّل عائقاً أمام أيّ قروض أو مساعدات دوليّة يمكن تقديمها إلى لبنان في المستقبل.
عمليّاً، ينقل زوار باريس أنّ خبراء المصرف المركزي الفرنسي يحيطون بكلّ الإشكاليّات القانونيّة التي تمنع إجراء تدقيق جنائي شامل بكلّ ما للكلمة من معنى اليوم. وثمّة تساؤلات كبيرة عن سبب استعجال الحكومة السابقة في تفويض وزير الماليّة توقيع العقود قبل تذليل هذه العقبات التي تتعلّق بشكل أساسي بموجبات السريّة المصرفيّة. لكنّ الخبراء الفرنسيين مدركون أيضاً أنّ ما سينتج خلال الأسابيع القادمة ليس سوى تقرير أوّلي، فيما سيكون بإمكان الحكومة الجديدة إصدار ما يلزم من مخارج تشريعيّة تسمح باستكمال التدقيق في المراحل اللاحقة. مع العلم أنّه ثمّة خبراء من المصرف المركزي الفرنسي يواكبون عن كثب ما خلصت إليه شركة “لازارد” من استنتاجات، استعداداً لإمكانيّة تكليفهم بمهام قد تشمل مواكبة التدقيق في أرقام مصرف لبنان لاحقاً، وهي مسألة لم يبدِ اتجاهها حاكم مصرف لبنان أيّ اعتراض.
على خارطة الطريق نفسها، يبرز اهتمام فرنسي كبير بملف الصندوق السيادي، وقد دخل أعضاء “لجنة الصداقة الفرنسيّة اللبنانيّة” في البرلمان الفرنسي في نقاشات معمّقة حول طبيعة الدور الذي يمكن أن تلعبه الشركات الفرنسيّة في هذا المجال. فيما يُفترض بهذا الصندوق أن يضمّ أصول الدولة اللبنانيّة، بهدف إدارتها وفقاً لنماذج الشراكة ما بين القطاعين العام والخاص. بينما جمعت “لجنة الصداقة الفرنسيّة اللبنانيّة”، التي تضمّ 70 نائباً فرنسياً، ما يكفي من مقترحات أوليّة حول طريقة عمل هذا الصندوق من جمعيّة المصارف اللبنانيّة وشركة “لازارد” واستشاريي حكومة تصريف الأعمال، الذين عملوا على خطة الإصلاح المالي.
وسيكون هذا الصندوق، مع كلّ ما يشمله من فرص استثماريّة جذّابة، مكمن المصالح الماليّة والاقتصاديّة التي سيسعى الفرنسيون إلى تحقيقها من خلال كلّ هذا المسار، بالإضافة إلى المصالح السياسيّة الاستراتيجيّة وتلك التي سترتبط بمستقبل المرفأ.
الصفقة واضحة إذاً: فرنسا ستقدّم الخطة والزخم السياسي الكفيل بتنفيذها، بالإضافة إلى الغطاء الدولي الكفيل باستدراج المساعدات. ولبنان سيقدّم الموقع والنفوذ الاستراتيجي والمصالح الاقتصاديّة.
بإمكان لبنان أن يسير في تلك الصفقة، أو ينسحب منها، لكن أقطاب السياسة هنا لن يملكوا الكثير من الهامش للمناورة. إنها صفقة من نوع: (Take It or Leave It).
mtv