رسائل الحاكم بين التصريح والتوضيح: احذروا المفعول المزلزل لتعويم سعر الصرف
جملة واحدة، كفيلة بهدم ما تبقّى من الهيكل فوق رؤوسنا المتعبة، بعباراتها القليلة رسمت، وبلحظاتٍ، السيناريو الجهنّمي الأعظم في مخيلتنا. الجملة الخطيرة وردت في حديث حاكم مصرف لبنان رياض سلامة لـ “فرانس 24″، “عصر نظام سعر الصرف الثابت بين الليرة اللبنانية والدولار الأميركي إنتهى، وسيكون الآن سعر صرف عائم يحدّده السوق”. ساعات قليلة مرّت قبل أن يستعين سلامة بوكالة “رويترز” ليوضح ما اقترفته زميلتها الفرنسية، علمًا أنّ حديثه للأولى ورد باللغة الإنكليزية، مبرّرًا أنّ الحديث “أُخذ في غير سياقه” وأنّ “تعويم سعر صرف العملة سيعتمد على مفاوضات مع صندوق النقد الدولي” ليضيف عبارة “الدقّة مهمّة”.
نعم الدقّة مهمّة جدّا سعادة الحاكم وفخامة المسؤولين، ولولا دقّة أوضاعنا وحراجتها لما كان لجملة مجتزأة هذا المفعول المزلزل.
بالعودة إلى المقابلة المصوّرة نفسها عبر “فرانس 24″، نجد أنّه ورد في جواب الحاكم حول تعويم سعر الصرف، أنّ زمن التثبيت إنتهى والإتجاه للتعويم، وبالفعل أقرن سلامة كلامه عن التعويم بالإشارة إلى التفاوض مع صندوق النقد الدولي، ولكن الوكالة وفي الخبر المختصر المتعلّق بالمقابلة اجتزأت الإجابة، من دون أن يدري محرّر الخبر تأثير ذلك على حالنا المضطرب. بأيّ حال ما تبقّى في محفظة المركزي من العملات الصعبة قارب على النفاذ، في المقابل الحلول السياسية معطّلة. وبكلام الحاكم الكثير من الواقعية فيما لو بقيت التعقيدات تعطّل تأليف حكومة تباشر بعملية الإنقاذ.
الخبير المالي والإقتصادي الدكتور بلال علامة لفت في حديث لـ “لبنان 24” إلى أنّ اللغط في تصريح الحاكم حصل إمّا بسبب الترجمة، أو باستعمال روحية التصريح من دون حرفيته. “ففي الخبر الأول قبل التصريح وردت عبارة “التعويم الآن”، وفي ذلك رسالة وجّهها الحاكم بأنّه من الممكن أن يقلب الطاولة في الشارع على الجميع. ثمّ أتى توضيحه بنفي كلمة “الآن” والإشارة إلى أنّ تحرير السعر ليس الآن، وإنّما من ضمن خطّة مستقبلية. وبالتالي أراد من خلال توضيحه القول إنّ التعويم لن يتمّ اليوم وهو ليس قرارًا متّخذًا”.
برأي علامة، “سواء حصل التوضيح أم لا، يشكّل تصريح الحاكم بما تضمّن من مقاربة، جرس إنذار للطبقة السياسيّة، ولجمعية المصارف أيضًا، خصوصًا أنّ اقتراحاته للمعالجة لم يتم الأخذ بها، بحيث تجاهلوا ضرورة إقرار قانون الكابيتال كونترول، وتُرك الأمر للمصارف لتستنسب وتطال بتقييد السحوبات صغار المودعين دون الكبار منهم. فضلًا عن تهرّب السلطة السياسية ورفضها اتخاذ قرار رفع الدعم أو ترشيده، وإبقاء معابر التهريب والتجارة الداخلية المافياويّة التي استفادت من الدعم، وتلكؤ السلطة في لجم السوق السوداء وفي وقف الهدر. وباعتقادي حصلت اتصالات عقب تصريحه اضطر بعدها للتوضيح، ولكن الرسالة وصلت والطبقة السياسية ستتلقفها، وستبني على كلام الحاكم. أمّا في حال أصرّوا على ممارساتهم، والإمعان في ضرب الإقتصاد، وإبقاء السوق الموازية ، سيلجأ الحاكم إلى هذه الخطوة مكرهًا. وبالتالي دقّ سلامة ناقوس الخطر في ما يتعلق بالطبقة السياسية، ورسالته مفادها ،عاجلًا أم آجلًا يتوجب علينا اتخاذ هذه الخطوات، وإلّا لن نستطيع الحصول على أيّ دعم من أي مكان في العالم”.
أضاف علامة أنّ تحرير سعر الصرف خطوة تتماهي مع متطلبات صندوق النقد الدولي، لناحية إعادة التوازن إلى السوق المالي ومن ثم الإقتصادي “كون تحرير سعر الصرف يمكن أن يعيد الحياة إلى ميزان المدفوعات، الذي حقّق عجزًا في العام 2020 بقيمة 12 مليار دولار، رغم انخفاض الإستيراد بنسبة كبيرة، نتيجة الضوابط التي تمّ وضعها”.
كان اقتراح تحرير سعر الصرف قد ورد في الخطّة الإصلاحية التي وضعتها الحكومة المستقيلة بناء على طلب صندوق النقد الدولي، بحيث اقترحت تحريرًا تدريجيًّا على مدار خمس سنوات، بدءاً من 3500 ليرة لبنانية مقابل الدولار في العام 2020، يليه تخفيض تدريجي بنسبة 5% سنوياً خلال أربع سنوات ليصل إلى 4279 ليرة في العام 2024. “وبطبيعة الحال الإتجاه نحو تحرير سعر الصرف منفردًا، ومن دون أن يأتي ضمن خطّة حكوميّة مدروسة لاستيعاب تداعيات المرحلة، يؤدي إلى كارثة على المستوى الإجتماعي وإلى فوضى في الشارع لا تحمد عقباها على مستوى المؤسسات والطبقة السياسية”.
كلّنا يعلم أنّ قدرة للبناني معدومة على تحمّل كلفة تحرير سعر الصرف في ظل اتساع رقعة الفقر والبطالة وانخفاض قيمة الأجور. كلنا يعلم التداعيات الكارثية، ولكن أهل الحل والربط لا يعلمون ولا يسمعون بحالنا، وإلّا لما استمرّوا بلعبة المقامرة ورهن أرواحنا وتعطيل المبادرات ودفنها على مذبح أنانياتهم وطموحاتهم الشخصيّة.
المصدر: لبنان 24