لبنان

وداعاً أيتها المنقوشة

لم يتسلم أصحاب الافران اليوم الطحين غير المدعوم من المطاحن بل فوجئوا بأنها أرادت بيعه بالدولار. وزارة الاقتصاد ما زالت مصرة على أن القرار لم يُتخذ بشكل نهائي بعد. والحديث هنا يترافق مع نقاشات واسعة على المستوى الحكومي، بهدف ترشيد الدعم كي تطول مدته ولا يقتصر على شهر أو شهرين. بيد أن أحداً في الوسط العام، وخارج الدائرة الضيقة لحاكم مصرف لبنان رياض سلامة والسلطة، لا يعلم حقيقة كم يملك البنك المركزي من احتياطي قابل للاستخدام. حتى الرقم 17 مليار، غير قابل للتصديق، إذ يُشير بعض الخبراء الى ألعاب حسابية لإخفاء الرقم الحقيقي الذي بالإمكان استخدامه.

حتى الآن ومن النقاشات الجارية بالإمكان تسجيل الملاحظات الآتية:

أولاً، الغذاء من الأمن القومي. وقرار رفع الدعم عن الطحين، باستثناء ذلك المستخدم لصناعة الخبز، يعني طبعاً أن المنقوشة، تلك الوجبة التي يعتمد عليها العمال والفقراء وقت الفطور الصباحي والغداء، باتت خارج متناولهم، إذ عليهم تسديد ثمنها بسعر السوق، ليصير 5 آلاف ليرة وربما أكثر. من الصعب تخيل هضم مثل هذا القرار على المستوى الشعبي. ورغم أن السلطة وقواها الرئيسية، تتمادى عادة في إجرامها وإهمالها، لكنها أكثر دراية وحنكة من أن تتخذ قراراً سينعكس بشكل كبير على قاعدتها الشعبية، وعلى أمن البلاد عموماً.

إذا كانت ضريبة “الواتساب” أثارت حنق الناس، لن يمر رفع الدعم دون ضوضاء، بل قد يفتح الباب أمام أعمال عنف وشغب على نطاق واسع. لن يُبالي الجوعى بجائحة الكورونا وبالتحذيرات من انفجارات واغتيالات ومؤامرات وغيرها. رفع الدعم عن الطحين والمواد الغذائية، يُشبه رفع سعر المحروقات، لجهة انعكاسه على الناس وقدراتهم الشرائية المتقلصة. الفارق أن ارتفاع أسعار المحروقات سينعكس على كل شيء، ومن ضمنها الغذاء. لهذا ربما يُؤجل الساسة المحروقات ويستعجلون كل ما دونه.

ثانياً، هناك كلفة سياسية لرفع الدعم في ظل رفض رئيس الجمهورية ميشال عون التنازل في ملف الحكومة لتسيير شؤون البلاد. عملياً، سيظهر عون كمُعرقل أساسي في ملف الحكومة، ومعه الإصلاح والمبادرة الفرنسية، في سبيل حماية مصالح صهره النائب جبران باسيل. هل يقدر الرئيس على تحمل هذه الكلفة، وما سيترتب عليها من حراك في الشارع؟ حين يتحرك الشارع على وقع أنباء رفع الدعم، سيعود باسيل الى الواجهة بصفته الوجه الأبرز للعرقلة في البلاد، وللحؤول دون الإصلاحات وغير ذلك. لكن هل يقبل التنازل بسهولة عن وزارة الطاقة التي هيمن عليها على مدى أكثر من عقد. وأين تقع الكلفة الأعلى على باسيل؟ هل الكلفة أقل في حال عرقل ملف الحكومة وتحمّل نيران الغاضبين من رفع الدعم، أم إذا سلّم حقيبة الطاقة لشخصية من خارج التيار، وسمح له بإنجاز في ملف الكهرباء (وهذا انجاز سهل نظراً لفشل باسيل ومستشاريه على مدى السنوات الماضية في جلب الكهرباء)؟

أمام باسيل خياران صعبان لا ثالث لهما، لو استثنينا الانسحاب من الحياة السياسية، وهو الحل الأفضل للبلاد، والأسوأ للصهر الذي تسلل الى الحياة العامة من بوابة الزواج ومحاباة عمّه.

ثالثاً وأخيراً، سيفتح رفع الدعم كوة جديدة في العلاقة بين أركان السلطة، أباطرة النظام الطائفي، من جهة، وبين عموم الناس، حتى أولئك الذي حصلوا على وظائف عامة وميزات، وارتادوا بلاط القصور الفارهة طلباً للخدمات. لم يعد هناك في النظام اللبناني هدايا للمريدين والأتباع. سيكون على القوى المعارضة للسلطة، العمل على استقطاب شرائح لم تكن يوماً قابلة للاختراق.

وهذه فرصة جديدة لاعادة اطلاق الانتفاضة ضد السلطة السياسية، بعدما عرّت نفسها مجدداً وطعنت أتبا عها في الظهر وأنزلت مئات الآلاف تحت خط الفقر. رفع الدعم عن الناس جريمة لن يغفرها حتى أقرب المقربين.

مقالات ذات صلة