لبنان

“لبنان يربح الاقرار”… هل تهرّب برّي من إصدار قانون المحاسبة؟

روى الشاعر والنائب السوريّ السابق المغفور له نوفل الياس هذه الرواية التالية: “توليت مرّة قضيّة في اللاذقيّة عن رجل قتل زوجته بسبب خيانتها له. كانت القضيّة شائكة لدرجة أنّها كادت تفقد السبب الدافع للقتل، وتجعل موكلّي مجرمًا بالفعل. ورثة السيدة القتيلة توكّل عنهم ابن عمّي وهو محام لامع، ولكنّ طبعه غضوب. كان لا بدّ لي من مخرج لبق ولائق أكشفه أمام القاضي قبل أن يلفظ حكمه، وابن عمّي كان متأكّدًا من فوزه في تلك القضيّة. خلال الجلسة قمت بممازحته، واستفزازه حتى إثارته إلى أن وقف وحمل كرسيّه وقرّر أن يضربني به. فوقفت توًّا بعد أن استغرب القاضي تصرّفه وقلت توًّا: يا حضرة القاضي، هذا ابن عمّي من لحمي ودمي، ولمجرّد مزحة شاء أن يضربني، فكيف بهذا الرجل الذي دخل مخدعه ووجد زوجته تخونه؟ وما أن أنهى كلامه حتى أصدرت المحكمة قرارها بالبراءة”.

تشبه رواية نوفل الياس رحمه الله، ما حدث البارحة في المجلس النيابيّ. فالرسالة التي كتبها فخامة الرئيس وأرسلها إلى المجلس بوشاحها الدستوريّ الموضوعيّ، كانت بتلقائيّتها شموليّة بوضوحها الشديد. عند بعض الفرقاء لم تنزل على قلوبهم بردًا وسلامًا، فأغاظتهم حتى الجنون، ليخرج واحدهم عن طورهم ويعلن وبوقاحة ما بعدها وقاحة بأنّ الرسالة تستهدفه وتستهدف فريقه السياسيّ، ولا تستطيع أن تغطي على موبقات الرئيس.

بغضّ النظر عن وقاحته وحقارته في التعبير، فإنّه كشف وبغيظه هذا، أنّه نبع للموبقات، بكونه اعتمد هذا الظنّ، فانعكس الظنّ على صاحبه، فلم يعد بمشتبه بقدر ما أمسى مكشوفًا ومفضوحًا، فلو افترضنا بأنّ الرسالة الرئاسيّة لا تعنيه، لكان الأجدى بهذا النائب المشهود له بالفصاحة المزيّفة هو وأحد زملائه من حزبه وقد اهتاج في سياق النقاشات الداخليّة أن يصمتا ولا ينبثّا ببنت شفة، حتى لا يتحوّلان بالنسبة لكثيرين من مشتبهين بالشكل إلى مشتبهين بالفعل وملتبسين بالقول.

رسالة الرئيس تشبه إغاظة نوفل لابن عمّه. فهي كشفت الحقيقة بلا بوح، وبرأي متابعين كان لا بدّ من نوّاب التيار الوطنيّ الحرّ لا سيّما الأكثر فهمًا ودقّة أن يتبصّروا مليًّا بأشكال ردود الفعل ومضمونها ويبنوا عليها المقتضى، وليس أن يكتفوا بصمت القبور.

لا يبنى المقتضى بالإجابة العنيفة على مستوى الإسفاف الظاهر عند من أسموا أفعال الرئيس بالموبقات، وهي كسيف الحقّ المسلط على رؤوسهم، بل على مستوى مساءلة هؤلاء عن معنى تلك النعوت في تلك اللحظة، ولماذا ظننتم بأنكم أنتم مستهدفون وليس سواكم؟
لو تكرّم نوابنا الأكارم وواجهوا هؤلاء بهذا المنطق لكانوا أوقعوهم في الشِرك والشبك. ولكون الحديدة لم تزل حامية، سؤالنا لهؤلاء لمَ ظننتم أيها الأوغاد أنكم مستهدفون؟ هل لكم الجرأة بأن تجيبوا على هذا السؤال؟

يسوغ لنا تكرار الجواب واحدًا ومثنى وثلاثًا، ظنّكم كشف أنكم من بعد ولوجكم ثورة 17 تشرين الأوّل 2019 قمتم بتحويل أموالكم إلى الخارج حتى يحتجب استلابكم ولا تنكشف حقيقتكم، وإلا فما معنى هجومكم بهذه الحدّة القاتلة؟ تصاريحكم وضعتكم في واجهة الاتهامات ومن سمعها لم يشكّ يومًا بأعمالكم، وإلاّ فما معنى أن واحدكم كان متوسّط الدخل أو قليله ثمّ تبيّن كم يملك من الأراضي والقصور، أو أنّ واحدًا منكم كان موظّفًا في أحد الصناديق فصار من أصحاب الملايين، عودوا إلى ما تنشره محطة المؤسسة اللبنانية للإرسال واثبتوا العكس، لقد تحولت إلى LBC licks فبأيّ عين تسمحون لأنفسكم بتسمية أفعال الرئيس بالموبقات، وأنتم مخازنها، بل أنتم من تواطأتم مع حاكم مصرف لبنان بتهريب أموالكم بعيدًا عن إمكانية التحقيق، وعمدتم على الضغط في الداخل والخارج من أجل تخلّي شركة ألفاريز& مارسال عن التدقيق الجنائيّ خوفًا من انكشافكم الفعليّ عبر الوزارات التي تسلمتموها.

لنعد إلى الجلسة التي أغاظت رسالة الرئيس هذا البعض وأخرجته عن حدود اللياقة واللباقة، فهي أظهرت مخرجًا بأن انتهت إلى القرار التالي: “جوابًا على رسالة فخامة رئيس الجمهوريّة في ما يتعلّق بالتدقيق الجنائيّ، وبعد مناقشة مضمون الرسالة، اتخذ المجلس القرار الآتي: تخضع حسابات مصرف لبنان والوزارات والمصالح المستقلّة والمجالس والصناديق والمؤسسات العامة بالتوازي للتدقيق الجنائيّ دون أي عائق أو تذرّع بسريّة مصرفيّة أو خلافها.”
ما هو هامّ في هذا القرار، بأنّه نال توقيع رئيس المجلس النيابيّ الأستاذ نبيه برّي عليه من بعد مناقشته من السادة النواب وموافقتهم عليه. ممّا يعني بأن الرئيس برّي أظهر تسليمًا بضرورة القيام بتحقيق جنائيّ من قبل شركة متخصّصة جديدة ترتئيها السلطة التنفيذيّة فتعيّنها للقيام بالتحقيق.
أهمية القرار أنّ تسليم الرئيس برّي مقرون بشموليّة التحقيق، ولم يأت القرار في هذا المجال على أن يكون التحقيق منطلقًا بالشكل والمضمون بمنهجية التدرّج في التحقيق بكلّ ملفّ على حدة، بل تعمّد وضع لفظة بالتوازي In parallel مع كلّ الملفّات وفي سائر الوزارات والقطاعات، من دون تحديد للآفاق الزمنيّة، علمًا بأنّ ثمة من طالب بأن يشمل التحقيق مرحلة عهد الرئيس أمين الجميّل وآخرون طالبوا بأن يشمل التحقيق المرحلة الحريريّة السياسيّة وصولاً إلى المرحلة الحالية. إلى أن خرج القرار من دون أن شموله لأي مرحلة من المراحل، أو حقبة من الحقب.
السؤال الذي يشغل بال الإعلاميين والحقوقيين، لماذا المجلس خرج إلى القرار ولم يخرج إلى قانون بحيث متن القرار أو مضمونه يصير قانونًا ملزمًا للحكومة وينشر، بالتالي، في الجريدة الرسميّة؟ ما هو الأفضل للبنان من هذه الزاوية أن يربح قرارًا أو قانونًا؟

في عرف حقوقيين مشكّكين، ثمّة تمييز بين “القرار” بآلياته و”القانون” بآلياته. وعند حقوقيين آخرين يبيتون في اليقين، القرار يوازي القانون بإلزاميّته لكونه صادرًا عن مجلس لا يحمل صفة التشريع أو التمثيل بل صفة المراقب لعمل الحكومة والمواجه لها والحاجب للثقة عنها. المجلس في تجلياته قلب السلطات والشعب مصدرها.

بين الفهمين المتناقضين والمتشاكسين في القراءة، كسب العهد ومعه لبنان إقرارًا كبيرًا من المجلس النيابيّ بأنّ لبنان أسير الفساد، والفساد موت. وكسب أيضًا إقرارًا بأنّ الطبقة السياسيّة مساهمة وموغلة حتى البطر بالفساد. هل لنا بالتذكير بالمقالات الافتتاحيّة للمغفور له غسان تويني، وقد كان يتهم تلك الطبقة السياسيّة بتقاسم المغانم والأسلاب والمصالح في لبنان وعلى حسابه، عودوا إلى افتتاحياته، عودوا إلى مقالات فؤاد بطرس وقد كان يحدّد مكامن الخلل في بنية النظام السياسيّ ويتهم الطبقة السياسيّة بها من زاوية ارتهاناتها عودوا إلى كتاب لبنانيات للمطران جورج خضر وقد أضاء على المحور الداخليّ في مرحلة التسعينيات من القرن المنصرم عودوا إلى ميشال إدة في رؤيته الواضحة لطبيعة الواقع السياسيّ.
الجواب على رسالة فخامة الرئيس إقرار واضح بضرورة التدقيق الجنائي في موبقات الطبقة السياسيّة المتقاسمة للأموال والمهربة لها، والكلام عن الموبقات يردّ بوضوح إلى قائله. لكن الكمال عندنا في مثل تلك الظروف أن يتمّ تحويل القرار بالنصّ الصادر عن المجلس النيابيّ والموقّع من الرئيس نبيه برّي إلى قانون يتبنّاه مجلس الوزراء ويوقعه فخامة الرئيس ليصير ملزمًا بصورة قاطعة وبنتيجته تنكشف الحقيقة بل يسطع الحقّ.
السؤال الأخير هل الرئيس نبيه بري تهرّب من القانون نحو القرار وهو الداعم المطلق لحاكم مصرف لبنان ؟ هنا بيت القصيد ولنا التقييم في المراحل المقبلة.

lebanonfiles

مقالات ذات صلة