كتب جورج شاهين في “الجمهورية”:
عكست القراءة الأولى لما انتهى إليه حراك العسكريين المتقاعدين في محيط السرايا الحكومي بعيد ظهر امس تعطيل جلسة حكومة تصريف الاعمال، وبالتالي إمكان إصدار القرار بتأجيل تسريح قائد الجيش العماد جوزف عون لفترة محدّدة. وهي نظرية تزامنت مع سيناريو آخر قال إنّ ما جرى كان متعمّداً لتبرير عدم سحب رئيس الحكومة الدعوة إليها، ووقف المهزلة في التعاطي مع هذا القرار. وعليه، طُرح السؤال: هل أنقذ المتقاعدون الحكومة أم قائد الجيش من هذا الاستحقاق؟
بمعزل عمّا يمكن انتهت اليه الجلسة التشريعية من مسألة إصدار القانون الخاص بالتمديد لقائد الجيش ومعه مجموعة من الضباط الآخرين من رتب محدّدة، لئلا يُقال انّ القانون صدرعلى قياسه منفرداً، فإنّ ما جرى في طريقة التعاطي من قِبل رئيسي السلطتين التشريعية والتنفيذية مع الموضوع، شكّل اكثر من نقزة في الأوساط السياسية والقانونية والدستورية، بالنظر الى السيناريو الذي اعتُمد وفرادته حتى اليوم في حياة السلطتين معاً. ذلك أنّ الدعوة الى اجتماع للحكومة في الفترة الفاصلة بين حلقتين من مسلسل الجلسات التشريعية النادرة للمجلس النيابي للبحث في احد البنود المشتركة المطروحة على السلطتين معاً ليس مبرراً. وقد اعتُبر سابقة خطيرة لم تشهدها البلاد من قبل، على الرغم من حجم المفاجآت التي سُجّلت في حالات استثنائية.
وقياساً على حجم ما انتهت إليه جلسة الحكومة التي لم تلتئم بسبب فقدان النصاب القانوني وردّه الى «عدم قدرة» الوزراء على الوصول الى السرايا الحكومي، بعدما سُدّت المداخل المؤدية اليه بأجساد الضباط والعسكريين المتقاعدين، مطالبين بتصحيح أوضاعهم المادية ومساواتهم على الاقل بموظفي القطاع العام، فإنّ هناك من رأى في ما حصل «تجربة» او «محاولة» فاشلة لإنتاج «فيلم وثائقي» يتحدث عن آلية حكم استثنائية ونادرة لم تشهدها بلاد «الماو ماو» ولا بلاد «الهيلا هو».
ففي ظلّ فقدان من تبنّى عملية الإعداد والإخراج ومساعدي ومنفّذي الفيلم وأبطاله، فقد ظهر جلياً انّ سبب ما حصل مردّه الى ما يمكن وصفه بـ «الحقد الشخصي المتبادل» بين اهل الحكومة أنفسهم المنقسمين بين مؤيدي مسلسل جلساتها ومعارضيها، كما حول آلية إتخاذ قراراتها وإصدار مراسيمها، قبل الحديث عن شعور متبادل بين مجموعة القيادات السياسية والحزبية والكتل النيابية المفروزة حول كل ملف وقضية خلافية بنحو عمودي، على شكل خطين متوازيين لا يمكن أن يلتقيا إلّا في المناسبات التي ستُعقد فيها صفقات ثنائية او ثلاثية بعيداً مما يقول به القانون والدستور والنظام الداخلي للمجلس النيابي.
وإلى هذه الملاحظات التي لا بدّ منها، فإنّ الدخول في قراءة ما حصل وما تردّد على هامشه، فإنّه ليس من السهل اتهام من خطّط ونظّم ودعا إلى الحراك الذي قام به المتقاعدون بالتبعية لأي طرف سياسي – في ظل قدرة البعض على تبنّيه ولو زوراً وبهتاناً ولم يفعل، حتى كتابة هذه السطور بعد ظهر امس – فإنّه كان في إمكان القوى الامنية والعسكرية المكلّفة حماية السرايا والجيش المنتشر في محيطها، فتح الطريق الى احد مداخلها لو أُريد ذلك. وفي المقابل، كان في إمكان الأمانة العامة لمجلس الوزراء التحسّب لما يمكن ان يؤدي اليه الاعتصام على مداخلها، لتأمين وصول الوزراء الى السرايا لو أُريد ذلك أيضاً. فالتجارب السابقة تنبئ بكثير من التجارب التي لم تؤدِ الى تعطيل جلسات الحكومة.
وطالما انّ الموضوع قد فُتح من هذه الزاوية، فإنّ النصائح التي أُسديت الى رئيس الحكومة منذ الدعوة الى الجلسة لتأجيلها لم تنجح. لا بل على العكس، فقد سعى المعنيون لاستعادة بعض الوزراء من الخارج لتأمين النصاب، وهو ما نُفّذ بالفعل، فعاد الى بيروت من كان في المغرب كما في الخليج، حتى انّ احد الوزراء الذي وصل متأخّراً الى بيروت ليل أمس الاول تلقّى عدداً من الاتصالات لضمان حضوره، لمجرد أنّه عبّر عن احتمال تغيّبه عن الجلسة، تاركاً «قراره الشخصي» بالخطوة الإيجابية كما السلبية، رهن مضمون جدول أعمال الجلسة الذي كان في حوزته قبل ساعات عدة بالوسائط الالكترونية أينما وُجد. ولما قرّر المشاركة استجابة لمسلسل الإتصالات والتمنيات فإنّه لم يتمكن من الدخول وبقي عند حواجز المتقاعدين البشرية التي قطعت الطرق الى المدخل الرئيسي للسرايا.
وإلى هذه المعطيات، فقد شكّل وصول ثلثي أعضاء مجلس الوزراء في الموعد المحدّد للجلسة – بعدما حضر اثنا عشر وزيراً – لا يمكن الحديث عن جهة حكومية ارادت التعطيل، فالعودة الى اسمائهم وهوياتهم الحزبية والسياسية لا توحي بأي قراءة استثنائية. فقد كانوا من مختلف القوى السياسية التي تتعاطى مع ملف التمديد او تأجيل التسريح لقائد الجيش من مواقع لم تقل كلمة سلبية علنية، ومن بينهم وزيرا «حزب الله» اللذان يخضعان لـ «الفحوص المخبرية» في مثل هذه المحطات الأساسية ومعهما وزيرا حركة «امل»، ولكن حضورهما أوحى بأنّ الأمر عادي وليس هناك ما يدعو للتشكيك بموقف «الثنائي الشيعي» لجهة تطيير النصاب من عدمه. وإن استُعرضت أسماء المتغيبّين فإنّ من بينهم من هو محسوب على رئيسي المجلس والحكومة شخصياً، من دون احتساب تغيّب احد وزيري «المردة» الذي لم يتوافر اي معلومة عن مكان وجوده قبيل انعقاد الجلسة.
وبعيداً من هذه المعطيات التي لا يمكن تجاهلها لمن يبحث عن «العقل المؤامراتي» في مثل هذه المعالجات، رغم خطورتها ودقّة المرحلة التي تعبرها، فإنّ من المنطقي تناول الموضوع من زاوية أخرى. ذلك أنّ تعطيل الجلسة – لأي سبب كان ـ قد يكون له فائدة إن كانت النيّة لدى اهل المنظومة التمديد او تأجيل التسريح لقائد الجيش ولأي مهلة كانت. فإنّ ذلك لن يطول انتظاره. ففي العلم الدستوري والقانوني، تبقى الإشارة ضرورية الى انّ مثل هذا الموضوع المطروح، سيتوافر بطريقة اكثر متانة وصلابة قانونية إن صدر بقانون عن مجلس النواب بدلاً من قرار حكومي اياً كانت مساحة أو لائحة المستفيدين منه شرط ألاّ يكون على قياس شخص واحد.
وعليه، فإنّ المنطق القانوني يقول انّ أي قرار من هذا النوع في مجلس الوزراء سيكون سهلاً الطعن بقانونيته أمام مجلس شورى الدولة، طالما انّ وزير الدفاع نأى بنفسه عنه مهدّداً بقرار آخر يتعارض مع ما سعى إليه آخرون. وإن كان له الحق القانوني بذلك إن صدر عن الحكومة، فإنّ صدور قانون عن مجلس النواب يمكن أن يكون اصعب عليه تجاهله وسيلتزم به، ان كان صادقاً في التعبير عن موقف قانوني، متجاهلاً الظروف الصعبة التي تعيشها البلاد ومعها المؤسسة العسكرية، منعاً لأي خلل محتمل في إحدى وأكبر المؤسسات وأكثرها صموداً في مواجهة الانهيارات في مثيلاتها الحكومية، وإن كانت دونها اهمية. ذلك أنّ ما يمكن أن تُصاب به إن كان ناجماً عن تقصير او فشل في مواجهة اسبابه، فالنتيجة سلبية في الحالتين. فأي قائد جديد للجيش قد يُعيّن في غياب رئيس الاركان المفقود الذي يمكن ان يتسلّم مهماته، فإنّه سيكون امام من يُعيّن في مهمّته وقتاً غير قصير للإمساك بزمام القيادة ومواجهة الظروف الصعبة التي تعيشها المؤسسة. فليس هناك من قائد عسكري يمكن أن يستبدل أحصنة اي قافلة وهي في «وسط النهر» كما يقول المثل العسكري القديم.