كتبت بولا أسطيح في “الشرق الأوسط”:
لم تهدأ الخلافات يوماً بين أهالي عدد من القرى والبلدات اللبنانية التي تشهد نزاعات على ملكية عقارات تطول في بعض الأحيان المياه أيضاً. إلا أنها لا تتصدر عناوين الأخبار إلا عند وقوع إشكال مسلح أو سقوط قتلى.
فبعدما كان النزاع العقاري في بلدة لاسا الواقعة في جرود قضاء جبيل (جبل لبنان) بين سكان البلدة من أبناء الطائفة الشيعية من جهة، وبين البطريركية المارونية متصدراً المشهد في السنوات الماضية، أدى سقوط قتيلين في منطقة القرنة السوداء في شمال لبنان الأسبوع الماضي خلال تبادل لإطلاق النار بين مزارعين من منطقتي بشري، التي تسكنها أغلبية مسيحية، وبقاع صفرين التي تسكنها أغلبية من المسلمين السنة، إلى تركيز الأنظار مجدداً على الخلاف العقاري بين أهالي المنطقتين الذي يمتد إلى نزاع على مياه الري.
ولا تقتصر النزاعات العقارية على المناطق السابق ذكرها، بل تطول أيضاً منطقتي القبيات الواقعة شمال لبنان، حيث الأكثرية مسيحية، والهرمل حيث الأكثرية شيعية، كما تطول بلدتي فنيدق وعكار العتيقة الشماليتين حيث الأكثرية سنية، إضافة لبلدة العاقورة ذات الغالبية المسيحية في منطقة جبيل، وبلدة اليمونة الشيعية في البقاع اللبناني.
وقد تبدو هذه النزاعات عابرة وطبيعية طالما أن ما يقدر بنحو 30 في المئة من الأراضي اللبنانية من دون سندات تثبت ملكيتها، إلا أن كون معظم سكان البلدات التي تشهد خلافات ينتمون لطوائف مختلفة، يجعل هذه النزاعات تتخذ بُعداً طائفياً يهدد السلم الأهلي كل مرة يحصل فيها إشكال كبير سواء أدى لسقوط قتلى أم لا.
وشكّل رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي، يوم الثلاثاء الماضي، لجنة برئاسة وزير الداخلية والبلديات في حكومة تصريف الأعمال بسام مولوي، وعضوية ممثلين عن وزارات البيئة والطاقة والمياه والمالية والعدل والزراعة و«مجلس الإنماء والإعمار» وقيادة الجيش، كلّفها بشكل أساسي بدراسة مسألة النزاعات بين الحدود العقارية والنزاعات على المياه في أكثر من منطقة تم تحديدها، طالباً منها رفع تقريرها إلى مجلس الوزراء خلال مهلة شهرين.
ولاقى قرار ميقاتي اعتراضات سياسية وقضائية. واعتبر رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع أن ميقاتي «قد تجاوز بقراره حد السلطة بشكلٍ غير مفهوم؛ إذ إنّ مسألة النزاعات بين الحدود العقارية هي من صلاحيات السلطات القضائية وليست السياسية». ودعا رئيس «لقاء سيدة الجبل» النائب السابق فارس سعيد لضم مخاتير وبلديات المناطق المعنيّة للجنة التي تم تشكيلها، مشدداً على وجوب «إلغاء مذكرة الوزير السابق علي حسن خليل، التي نقلت ملكية مشاعات جبل لبنان من أهالي القرى إلى الجمهورية اللبنانية عام 2015»، ونبه إلى أن «التلاعب بالاستقرار العقاري أخطر من الاستقرار السياسي والاقتصادي». وصدر عن المكتب الإعلامي لميقاتي بيان جاء فيه أنه «في ضوء ما أثير من اعتراضات ومزايدات، فإن الرئيس اتصل برئيس اللجنة وزير الداخلية والبلديات بسام مولوي، وطلب منه التريث في دعوة اللجنة إلى الانعقاد، وبالتالي تجميد عملها، كما اتصل بوزير العدل هنري خوري وطلب منه متابعة الملف مع مجلس القضاء الأعلى لتسريع البت بالملفات القضائية ذات الصلة».
وأشار رئيس مؤسسة «جوستيسيا» الحقوقية المحامي الدكتور بول مرقص إلى أن تشكيل الحكومة لجنة لدراسة النزاعات حول ملكية الأراضي وترسيم الحدود «يمكن أن يُعد خطوة إيجابية نحو التعامل مع تلك القضايا. ومع ذلك، فإن فاعلية هذه اللجنة وقدرتها على حلّ النزاعات، فضلاً عن مدى التزام الحكومة والقضاء بالتنفيذ واتخاذ الإجراءات المناسبة، أمور غير أكيدة»، لافتاً، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى «إمكانية استخدام اللجان أداة لدراسة وتقييم الأوضاع وتقديم توصيات، ولكن في النهاية، القضاء يكون المسؤول الأساسي عن البت في النزاعات واتخاذ القرارات النهائية».
من جهته، يرى المحامي أنطوان نصر الله أن «اللجنة التي تم تشكيلها لا تستطيع أن تخرج بحلول منطقية طالما القضاء لم يحسم ملكية الأراضي»، معبّراً عن خشيته أن يكون الهدف من تشكيل هكذا لجنة «المماطلة وكسب الوقت، خصوصاً أنه لا صفة قانونية لها، كما أن مشاريع القوانين التي قد تقترحها والقرارات التي قد تتخذها لن تكون قابلة للتنفيذ في ظل الوضع الراهن لمجلسي النواب والوزراء المعطلين».
ولا يحصر نصر الله المسؤوليات بالقضاء، إذ يؤكد أن «تنفيذ الحكم القضائي مسؤولية القوى الأمنية والدوائر العقارية. هناك الكثير من القرارات المتخذة لم تنفذ بسبب تلكؤ السلطات الأمنية بسبب الأوضاع السياسية»، مضيفاً: «المشكلة الأساسية مشكلة سياسية في لبنان. المطلوب أن يتركوا القضاء يقوم بدوره والقوى الأمنية تقوم بدورها من دون أي استغلال سياسي وشعبي».
يذكر أن مجلس القضاء الأعلى رد على الاتهامات للقضاء بالتقصير بملف النزاعات العقارية، وأكد، في بيان، «قيام القضاء بواجباته في شكاوى النزاع العقاري بين بلدتي بشري وبقاع صفرين»، مشدداً على أنه «لا وجود بتاتاً لأي تلكؤ أو تخاذل ينسب إلى القضاء والقضاة، الذين قاموا ويقومون بواجباتهم، رغم التطاول وكل الضغوط والتهديدات التي يتعرضون لها».