كتبت إيسامار لطيف في موقع mtv:
“مع أو بلا نفايات، مع أو بلا كهربا، مع أو بلا رئيس أو حكومة، مع أو بلا رواتب بـ”الفريش” بيضلّ لبنان أجمل بلد بالعالم”… قد تبدو الفكرة جنونيّة للوهلة الأولى، فمَن يخرج من جهنّمنا ليَرغب بالعودة إليها طواعية؟ ولكنّها الحقيقة التي لم يتحدّث عنها أحد حتّى اليوم، وهي عودة بعض الفئات الشابة من الاغتراب تحت شعار “كيف ما كان منحبّو”، فما سرّ لبنان ليجذب الجميع إليه حتّى في انهياره؟
تستذكر كارلا متري (٢٤ سنة) في حديث مع موقع mtv كيف كانت “متحمسّة” للخروج من لبنان والتحليق بعيداً في مكان يسمح لها بتحقيق أحلامها أو أقلّه “لتحتمي في كنف دولة لا تُفجّر شعبها”، إلّا أنّ هذا الحلم لم يكتمل معها إذْ كانت تحترق شوقاً لرؤية عائلتها وأحبائها في كلّ يوم، إلى أن وصلت لمرحلة أجبرتها على الرجوع الذي “لا تندم عليه”.
تشرح كارلا هذا الموقف بقولها “كنت على أتمّ الاستعداد لتسجيل “الماستر” في الخارج عوضاً عن مواجهة المجهول هنا أو تعليق الشهادة على الحائط بحيث إنّني لن أعمل بها نتيجة انهيار معظم القطاعات وتراجع سوق العمل. الحياة في أوروبا جميلة، واللبنانيّ مُرحبّ به أينما حلّ إجمالاً، إلّا أن نمط الحياة مملّ والروتين يقتل، فتخيّلوا الجار لا يُلقي التحيّة على جاره، ولا مِن مُجيب لصراخك أو ألمك لأنّ كل إنسان يعيش مع نفسه ولنفسه، لذا كثيراً ما كنا نسمع عن وفاة بعض الأشخاص واكتشاف الأمر بعد أيّام، وأنا لا أرغب بالموت بعيدةً عن عائلتي، لا يُمكنني تحمل الفكرة حتّى”.
حكاية حسن قانصو (٣٢ سنة) لا تختلف كثيراً عن كارلا، فالشاب الثلاثينيّ “لم يحتمل درجة الحرارة في الخليج”، ليحسم قراره بالعودة إلى لبنان في الصيف الماضي و”الرزق عالله”. يقول حسن لموقع mtv إنّه “فعلياً لا علاقة للطقس أو ما شابه بقراره، ولكنّها شمّاعة علّق عليها أسباب عودته ليُقنع نفسه بأنّه لم يتخذ الخيار الخاطئ عندما ينظر إلى والديه العجوزان ولا يجد الدواء لهما، أو عندما يضطر الوقوف لساعات طويلة على أبواب الضمان والسوبرماركت ومحطات المحروقات.ولكن كلّ هذا يهون بقرب الأهل والأصحاب، لأن الغربة صعبة وليست مثاليّة كم يتصوّرها البعض وتتطلب شجاعة كافيّة لإسكات صوت القلب الذي يحنّ لجُهنم لبنان، وهذا ما عجزتُ عنه”.
بعيداً عن هاجس الهروب من واقعنا الحاليّ أو حلم الحصول على جنسيّة ثانيّة تخوّل حاملها من السفر أينما أراد واستحصال جواز سفر بسهولة من دون عناء، هناك أجانب من أصول لبنانيّة فضّلوا العودة إلى وطنهم الأمّ بعد سنوات طويلة من الهجرة، وفي ذروة الانهيار، لعلّ هبة مرتضى خير دليل عليهم.
لم تختَر هبة حياتها في صغرها، فأهلها هاجروا إلى ألمانيا بزمن الحرب الأهليّة التي لم تترك خياراً لدى الكثير من العائلات سوى الهروب نحو برّ الأمان على الموت قتلاً برصاصة طائشة أو مقصودة هنا. وهذا ما حدث، كبُرت هبة في بلدٍ لم يبخل عليها بشيء، حيث عاشت حياة هادئة لا صخب فيها ولا ذلّ، وتزوجت من لبنانيّ يُقيم هناك وأنجبت منه جاد (٦ سنوات) وهناء (١٠ سنوات)، وذات يوم قرّرت أنّها لا ترغب بأن يكبُر أطفالها بعيداً عن أصولهم لتتخذ أكثر القرارات “جنوناً” في حياتها… العودة.
بحسّ من الفكاهة تشرح لنا هبة “كيف قرّرت في يوم وليلة هدم كلّ شيء”، وتقول ممازحة: “سأندم، وقد يكرهني أطفالي، وأهلي لاموني كثيراً وحاولوا منعي بطرق مختلفة، ولكنّني لا أرغب بأن يتحسّر أطفالي على وطنهم كما فعلت لسنوات، فلا شكّ في أن علاقتنا مع لبنان “toxic” ومع هذا اخترته”.
“كبرتُ بظروف جيّدة، على الأقل كنتُ محظوظة لدرجة كافيّة ألّا أموت برصاص الحرب والطائفيّة، ولكنني لم أكن طفلة سعيدة، فأنا سُلخت من بين أترابي ومن مدرستي وعائلتي الكبيرة لنبدأ من الصفر في بلد لا نعرفه ولا يعرفنا، أحمل جنسيته ولكنني لا أنتمي إليه، على عكس لبنان، الذي لم تعطِنا هويّته أيّ شيء سوى الألم والغربة. في ألمانيا، لا أحتاج إلى تسوّل المعونة أو حقوقي الطبيعيّة من أحد، وأكثر ما يُخيفني هو كيف سأتأقلم مع غياب النظام هنا وأنا اعتدت عليه طيلة حياتي”، تقول هبة.
يرى علم النفس هذه الظاهرة “طبيعيّة”، إذْ تُشير الاختصاصيّة رنا الحجل إلى أن “بعض الأشخاص في تركيبتهم لديهم ميول وحاجات مختلفة، وهذا ما يُفسّر بعض التصرّفات التي يراها البعض غير منطقيّة لهؤلاء الأشخاص، الذين في الواقع ليسوا سوى مرآة لغرائزهم البشريّة”.
كما تؤكّد الحجل على أن “الغُربة ليست سهلة ولا يتقبلها الجميع، لأنّها بمثابة اقتلاع المرء من جذوره وزرعه في أرض أخرى، وهذه الأرض قد لا تُناسبه حتّى ولو توفرت فيها كلّ مقوّمات العيش، فيذبل ويموت”. وتلفت إلى أن “علاج الشخص من مشاكله وصراعاته الداخليّة لا يتمّ عبر حبّة دواء، إنّما عبر الحبّ. فمثلاً معظم المغتربين يشكون المشاكل ذاتها التي غالباً ما تتمحور حول الوحدة، لأنّهم بطبيعتهم لم يعتادوا عليها في لبنان، وهذا لا يعني أنّنا “الصحّ” وهم “الخطأ”. ببساطة يكبر هاجس فقدان الأحبّة ورحيلهم من دون وداع داخل فكر المغترب بحكم بُعده الجغرافيّ، فمن اعتاد الاتّصال بصديقه أو قريبه في أيّ وقت لتناول فنجان من القهوة وتبادل الهموم، أو لقاء أحبائه متى يشاء، لا يمكنه تقبّل فكرة الابتعاد عنهم بسهولة، حتّى ولو حاول بإرادته، عقله الباطنيّ يرفض ذلك”.
لا شكّ بأن أصعب الصراعات تلك التي يخوضها الإنسان مع نفسه. فإذا كان الجسد في أبعد منطقة في العالم والقلب في بيروت، لن يدوم الاغتراب طويلاً. فهل يعود أبناء الوطن وتجفّ دموع الأمّهات وترتاح قلوب الآباء ولو بعد حين؟