لبنان

القضاء في مواجهة “كورونا”: ما باليد حيلة

كتبت لينا فخر الدين في “الأخبار”:

قضى شاب من آل ش. أكثر من 8 أشهر في أحد مراكز التوقيف في البقاع. الموقوف مُتّهم بجنحة إطلاق نار بهدف التهديد خلال إشكالٍ، ومن دون وقوع أية إصابات. ظلّ موقوفاً تعسّفاً من دون أن يستمع إليه قاضي التحقيق بسبب ضغط الملفات. في هذا الوقت، استحصل الشاب على إسقاط حق، لكن «حظّه العاثر» أبقاه موقوفاً من دون مذكّرة تحقيق وجاهيّة.

رقّت قدما والد الموقوف لكثرة تردده إلى قصر العدل، لمطالبة قاضي التحقيق بتحديد جلسة لاستجواب ابنه وإصدار مذكّرة توقيف بحقّه، لكن القاضي أدار «الأذن الطرشاء». هو «الريّس» نفسه الذي نام قرير العيْن في عطلته القضائيّة ليتحوّل الملف إلى قاضٍ آخر أطلق سراح الموقوف لانتهاء محكوميّته منذ أكثر من 5 أشهر.

حادثة هذا الشاب الذي قضى عاماً سجنياً كاملاً من دون أن تصدر بحقّه مذكّرة توقيف وجاهيّة، ليست يتيمة في مراكز توقيف وقصور عدل مُكتظّة ولا تُراعى فيها أبسط حقوق الإنسان. أعداد السوريّين الذين لا يحملون إقامات شرعيّة هم بالمئات داخل مراكز التحقيق. هؤلاء هربوا من الحرب ودلفوا إلى مزراب السجن اللبناني.

وبالتالي، يبدو منطقياً أن يفوق عدد السجناء (أكثر من 8000) القدرة الاستيعابيّة للنظارات والسجون الـ 25 الموزّعة على المناطق، طالما أنّ مئات الموقوفين ينتظرون شهوراً تحديد موعد جلسة لاستجوابهم، أو أن هناك من انقضت مدّة محكوميتهم من دون أن يكون بمقدورهم تسديد الغرامات أو كفالات إخلاء السبيل وتعيين محامٍ لمتابعة قضيّتهم، أو من الأجانب الذين يرفض الأمن العام استقبالهم في نظاراته تمهيداً لترحيلهم بذريعة تفشي كورونا.

هي أزمة دولة بأكملها تغاضَت عن بناء سجون تأهيليّة وإقرار تشريعات قانونيّة حديثة وزيادة عدد القضاة والنواب العامين، بالإضافة إلى تراخي الأجهزة الأمنيّة وإهمال بعض القضاة لواجباتهم القضائيّة على حساب مصالحهم الشخصيّة، تماماً كعدم تطبيقهم لبعض النصوص القانونيّة (مثلاً المواد: 402، 138 و108 من قانون أصول المحاكمات الجزائية)، ما يؤدي إلى اكتظاظ مراكز التوقيف بموقوفين… غير موقوفين!

إذاً الأزمة موجودة. ما زاد الطّين بلة هو انتشار فيروس كورونا وتسجيل نحو 800 إصابة بين السجناء. حينها، دخل القضاء في حالة كوما، وتضخّمت الأزمة حتّى تكاد أن تنفجر. وزيرة العدل في حكومة تصريف الأعمال ماري كلود نجم، بالتعاون مع مجلس القضاء الأعلى، سعت إلى إيجاد حلول. أهمّها تعميم فكرة الاستجواب الإلكتروني عن بُعد، وتعليق المهل، ومحاولة عدم إصدار مذكّرات توقيف بحق من يرتكبون جنحاً «بسيطة»، وتسهيل عمليّة تقديم إخلاءات السبيل عبر الوسائل الإلكترونيّة والتساهل بتوقيعها، بالإضافة إلى عدم استئنافها.

صارت الصورة سورياليّة: القضاة الذين كانوا بالأمس القريب يعملون في قصور عدل «تنشّ» وآيلة إلى السقوط من دون كهرباء وأنظمة تدفئة وتبريد، ويمرّرون أحكامهم بالفاكس وعلى الورقة والقلم، صار لزاماً عليهم الانتقال إلى عالم التكنولوجيا بكبسة زر ومن دون سابق إنذار.

تعرف وزيرة العدل أنّه ليس باليد حيلة. هي التي صارت تتابع معالجة نشّ «العدليّة» وتسرّب الماء إلى قاعات المحاكم، وانقطاع الكهرباء عن مبانٍ تابعة لها، ما يؤدي إلى توقّف عمل الموظفين فيها لثلاث ساعات يومياً!

الأمثلة على بؤس واقع قصور العدل لا تُعدّ ولا تُحصى. يجاهر القضاة بقضيّة انقطاع الورق والكثير من المواد (كالمظاريف البريديّة والكبّاس و»رولو» الفاكس واللمبات..) عن معظم مكاتبهم. في الماضي، كان القضاة يشترونها من مالهم الخاص، ولكن مع غلاء الأسعار وتآكل معاشاتهم، صار من المستحيل على كثير من القضاة أن يمدّوا أيديهم إلى جيوبهم ليأتوا بتلك المستلزمات.

وإذا كانت المواد الأساسيّة مفقودة في المكاتب، فكيف يُمكن أن يكون الاستجواب الإلكتروني هو الحل؟

يؤكّد قضاة أنّ قلّة قليلة منهم تُطبّق فكرة الاستجواب عن بُعد. فبعضهم غير مؤهّل لاستخدام التكنولوجيا، والبعض الآخر غير مُهتم بتسريع المحاكمات متذرّعاً بعدم قانونيّة القرارات، فيما العقبة الأساسيّة هي غياب التجهيزات. ومن البديهي أن تكون المحصلة: عدم عقد بعض هيئات المحاكم والقضاة الجلسات منذ أكثر من 7 أشهر!

يُشير رئيس مجلس القضاء الأعلى القاضي سهيل عبّود إلى أنّ المجلس وبالتّعاون مع وزيرة العدل ونقابة المحامين في بيروت (قدّمت دعماً لوجستياً وبشرياً) قاموا بتجهيز محكمة الجنايات في بيروت التي باتت تعقد جلساتها يومين في الأسبوع (عقدت أكثر من 400 استجواب عن بُعد)، برئاسة القاضي خالد البيطار وفي حضور كامل أعضائها، بالإضافة إلى وكلاء الدفاع والشهود لاستجواب الموقوفين، عبر شاشة موصولة بشبكة الإنترنت، وتأمين كومبيوتر محمول واحد موصول بالإنترنت لمعظم قصور العدل، مداورةً بين القضاة.

ويوضح عبود لـ«الأخبار» أنّ المجلس التقى رئيس حكومة تصريف الأعمال حسّان دياب وقدّم له لائحة بالأجهزة المطلوبة لتجهيز الغرف الجزائيّة ومحاكم الجنايات والتمييز والاستئناف والقضاة المنفردين والهيئات الاتهّاميّة… في كلّ محافظة، بشاشات كبيرة موصولة بشبكة الإنترنت وكومبيوترات محمولة.

وبانتظار أن تُمطر سماء السرايا على قصور العدل، فإنّ الحال باقٍ على حاله: قضاة عاطلون من العمل وآخرون يستجوبون الموقوفين إلكترونياً باستخدام الإنترنت من هواتفهم الخلويّة أو بتأمين جهاز توجيه للإنترنت (wireless router) على نفقتهم.. وحتى قيام نائب عام بتأمين الإنترنت بمجهودٍ شخصيّ إلى مخفر تابع لدائرته!

ولكن لا يُمكن للوضع أن يستمر على هذا المنوال، مع استحالة الاستجواب الإلكتروني في الكثير من القضايا، كالاستجواب في محاكم الجنايات في المناطق بسبب ضرورة وجود هيئة المحكمة بأكملها والمؤلّفة من رئيس المحكمة والمستشارين وممثّل النيابة العامة والكاتب، بالإضافة إلى حضور المُدّعي ووكلاء الدفاع عن الفريقين والشهود.

كما يواجه القضاة عقبة رئيسيّة حينما يضم ملف الدعوى أكثر من موقوف موزّعين على أكثر من مركز توقيف، ما يؤدّي إلى تأجيل الجلسات في أغلب الحالات.

وبالطّبع، يصبح اعتماد آلية الاستجواب الإلكتروني أصعب في حال تعميمها في جميع محاكم الجنايات وغرف التمييز والاستئناف، على اعتبار أن لا إمكانيّة لعقد استجوابات إلكترونيّة بالجملة في مركز تحقيق واحد.

يروي أحد القضاة أنّ تجربته مع الاستجواب عن بُعد تُعدّ ناجحة بسبب توفير الوقت والجهد بنقل الموقوفين إلى مراكز التحقيق الذي قد يكون صعباً في بعض الأحيان كعدم وجود عناصر أو تعطّل الآليات أو انقطاع الطريق بسبب الطقس في المناطق الجبلية.

في المقابل، هناك الكثير من العوائق التي تؤخّر عمله كانقطاع الاتصال بالشبكة بشكلٍ مُتكرّر وانقطاع الكهرباء عن قصور العدل النائية وانعدام التجهيزات الحديثة في معظم مراكز التّحقيق. حينها، يعتمد القاضي على «حماسة» العسكري الذي يقبل باستخدام هاتفه الخاص لإجراء الاستجواب. في حين يبدو هذا الخيار مستحيلاً في بعض المراكز التابعة للجيش مثلاً، حيث يُمنع على العسكريين إدخال هواتفهم.

وتطول لائحة العوائق، إذ يشير القاضي إلى عدم التنسيق بين مديريّة السجون وباقي السجون، «ما يستوجب عليّ الاتصال بأكثر من مركز تحقيق لإيجاد الموقوف وتسريع استجوابه، بالإضافة إلى إهمال الأجهزة الأمنيّة التي تتذرّع حيناً بانتهاء الدوام الرسمي أو اتّباع البيروقراطيّة، فيرفض العسكري تجهيز الموقوف من دون أن تصله برقيّة من المديريّة».

mtv

مقالات ذات صلة