كتبت راكيل عتيّق في “نداء الوطن”:
بات تعامل الجيش اللبناني مع أي حدث يُربط بالاستحقاق الرئاسي نظراً الى أنّ اسم قائد الجيش العماد جوزاف عون من أبرز الأسماء الجدّية المطروحة لتولّي رئاسة الجمهورية، إن في أروقة البحث الداخلية أو الخارجية. لذلك إنّ «القوة المُفرطة» في التعامل مع المعتصمين ليل الجمعة – السبت من الأسبوع المنصرم، كما وصّفها البعض، خصوصاً إثر شهادات بعض المشاركين في التحرُّك الذين تعرّضوا للضرب بالعصي على رؤوسهم، ومن بينهم الكاهن جورج صوما، فُسّرت من وجهتي نظر معاكستين: الأولى، أنّ قائد الجيش يوصل رسالة رئاسية للمعنيين بأنّه هو من يتحكّم بـ»لعبة الأرض»، والثانية أنّ هناك أطرافاً سياسية، ومن خلال أدواتها داخل المؤسسة العسكرية، حاولت جرّ الجيش الى هذا التصادم مع المواطنين، لـ»حرق» صورة القائد شعبياً وإظهاره على أنّه «يقمع» الشعب.
التحليلات كلّها التي تلت تعامل الجيش مع المعتصمين الذين حاولوا قطع الطريق في جبيل، احتجاجاً على توقيف وليم نون شقيق جو الشهيد في تفجير مرفأ بيروت، لا تأخذها قيادة الجيش في الاعتبار. فهي تعتبر أنّها غير معنية لا بالتجاذبات السياسية حيال أي ملف ولا بـ»الطرقات الرئاسية». وتؤكد مصادر عسكرية أنّ التعامل مع إشكال جبيل، أو أي حادث آخر من هذا النوع قد يحصل مستقبلاً، ينطلق من «أمر واضح» من القيادة: قطع الطرقات ممنوع وخط أحمر. وأتى منع المعتصمين في جبيل من قطع الطريق كـ»رسالة» للجميع، بأنّ «اللعب» بالاستقرار وهز الأمن من خلال قطع الطرقات الذي يُمكن أن يؤدّي الى تطورات أمنية سلبية، لا يُمكن التراخي معه ولا السماح به من «أوّل الطريق».
توجُّه قيادة الجيش هذا يثبت وفق «العونيين» نظرية أنّ العماد جوزاف عون كان «قائد الانقلاب» في 17 تشرين الأول 2019، بحيث أنّه وعلى عكس قراره الآن، سمح بقطع الطرقات، على رغم أنّ فريق العهد السابق كان يطالب آنذاك بمنع قطع الطرقات، ما لم يلبّه قائد الجيش. إلّا أنّ لقيادة الجيش وجهة نظر أخرى، فبالنسبة إليها إنّ الظروف الآن في ظلّ الفراغ الرئاسي والمخاطر المحدقة بالأمن والاستقرار تختلف عن ظروف مرحلة 17 تشرين وما تلاها، حيث كانت هناك «ثورة» في كلّ المناطق وأحداث واجهها الجيش للمرة الأولى، كانت تقتضي منه التعامل بسياسة «الشد والرخي» للمواءمة بين عدم التصادم مع «الثوار» في كلّ المناطق من جهة وبين الحفاظ على الأمن من جهةٍ ثانية. أمّا في هذه المرحلة، فإنّ أي خلل أمني قد يؤدّي إلى «ما لا تُحمد عقباه»، في ظلّ فراغ رئاسي وظروف اجتماعية واقتصادية كارثية. لذلك يجب، بحسب قيادة الجيش، التصرف بحزم مع أي محاولة قد تؤدّي الى انفلات الأمور وفوضى قد لا يُمكن السيطرة عليها.
إنطلاقاً من هذا الواقع وقرار قيادة المؤسسة العسكرية، يحاول الجيش احتواء أي إشكال أو حادث، مع احترام الحق بأي تحرُك أو اعتصام سلمي من دون قطع الطرقات. وبحسب رواية المشاركين في ذلك الاعتصام، فور محاولتهم قطع الطريق تدخّل العسكريون الذين كانوا متواجدين على الأرض بقوة، وعمدوا إلى ضرب المشاركين بالعصي على رؤوسهم متسبّبين بجروح للبعض منهم، ومن بينهم الكاهن، خال وليم نون. أمّا بحسب رواية مصادر عسكرية، وعلى رغم تفضيل الجيش عدم الدخول في سجال احتراماً لرجال الدين، فالعسكريون كانوا في موقع «ردة الفعل» وليس الفعل، إذ جرت مسبقاً اتصالات مع الموجودين على الأرض ومرجعياتهم لتحذيرهم من عدم قطع الطريق، كذلك لم يتعرّض العسكريون لأحد إلّا بعد محاولة قطع الطريق بالقوة واستهداف العسكريين بمهاجمتهم ورمي الحجارة عليهم، عندها اضطروا الى التعامل مع هؤلاء بالقوة لمنعهم من استهدافهم من جهة ومن قطع الطريق من جهةٍ ثانية. وعلى الأثر، عملت قيادة الجيش بصمت لاحتواء الحادثة، عبر التواصل مع المعنيين من مرجعيات ومطارنة ورجال دين، للتوضيح ومعالجة ذيول هذا الإشكال والحؤول دون تكراره.
“قطوع” جبيل
نجح الجيش في تخطّي هذا «القطوع» في جبيل، ولا تخشى القيادة من أي «تمرُّد» داخلي على قراراتها، نافيةً نظرية أنّ العسكريين في جبيل تعاملوا مع المتظاهرين بعكس أوامر القيادة وبـ»أمر» من طرف آخر في الجيش، مؤكدةً أنّ «الأمر» لقائد الجيش وحده، وأنّ أحداً لا يأخذ قرارات من هذا النوع إلّا القائد، فالعسكريون الذين كانوا متواجدين على الأرض في جبيل كان لديهم «أمر» واضح من القيادة بمنع قطع الطريق وتصرفوا على أساسه، ولا يوجد أي عسكري يأتمر بغير أوامر القائد.
كذلك لم يأت تعامل الجيش مع حادثة جبيل انطلاقاً من معلومات أو معطيات تفيد بنية «تكبير» الموضوع أو استغلال الاحتجاج على توقيف وليم نون لاستخدام «لعبة الأرض» لأهدافٍ أخرى، لكن بمعزل عن أي معلومات استخبارية، إنّ قيادة الجيش تخشى من أي تدهور أمني، وتعتبر أنّ «التراخي» في منطقة يجرّ «تراخياً» في أخرى. لذلك إنّ «نموذج» تعاطي الجيش مع حادثة جبيل سيتكرّر مع أي محاولة مماثلة لقطع الطريق، بمعزل عن الجهة التي تقف وراءها ومهما كان هدفها أو سببها. ولذلك تحرّك الجيش أمس الأول بعد قطع بعض المحتجين الطرقات، لمنع حصول أي إشكال وفتح الطرقات. وأتى تعاطي قيادة الجيش مع حادثة جبيل كرسالة واحدة وواضحة للجميع: «لا يحاولنّ أحد اللعب بموضوع الطرقات والأمن، فالاعتبارات الأمنية خط أحمر وغير مرتبطة لا بالرئاسة ولا بالسياسة، وقطع الطرقات ممنوع، فلن نسمح بأن يصبح البلد عرضة لأي اهتزاز».