من التعليم إلى فرن مناقيش…
كتب محمد دهشة في “نداء الوطن”:
تفتك الازمة المعيشية والاقتصادية الخانقة بشرائح المجتمع كافة، ومع طول أمدها بدأت تفرز واقعاً جديداً ومريراً، جعلت الكثير من العمال والمياومين عاطلين عن العمل على حين غرة، ولم تكتف بذلك بل حولت بعضهم من قطاعات الى أخرى سعياً وراء قوت اليوم، بعدما باتت مهنهم الاصلية لا تسد رمقهم ولا تغني ولا تسمن من جوع.
المعلمة ناريمان الناشف ابنة بلدة مغدوشة – قضاء صيدا، واحدة من هؤلاء، أجبرتها الازمة المعيشية على تغيير وظيفتها من معلمة الى عاملة في فرن للمناقيش في البلدة، تركت صفها وتدريس طلابها ولحقت رزقتها كي تعيش بكرامة، تقول: «انني معلمة لغة عربية في احدى مدارس المنطقة، حاصلة على «ليسانس» في الادب العربي، ولكن للأسف الازمة المعيشية لم تترك لنا خيارات كثيرة، فالقطاع التعليمي تراجع وراتب المعلم طارت قيمته، ما دفعني الى العمل في فرن يعود الى ابن عمي”.
ما جعل ناريمان علامة فارقة هو عملها بحد ذاته في الفرن وهي مهنة تكاد تكون حكراً على الرجال لمشقتها وصعوبتها والوقوف امام بيت النار – الفرن، تؤكد «في البداية كان الزبائن يتفاجأون بقيام امرأة بالخبز ويرون الامر غريباً ويتساءلون لماذا، ولكن مع الوقت اعتادوا، خاصة ان جوابي واحد، «العمل مش عيب…»، العمل بالفرن مثل العمل بالمدرسة او البنك، «كلو شغل». علمت مع برنامج الامم المتحدة بعد الظهر، ولكن للاسف يتأخر القبض كثيراً او لا يكفي، ما يدفعنا الى العمل بأكثر من مهنة، لقد فتشت عن عمل اضافي ولم أجد، البطالة تغزو الاسواق، والمدارس لا تقبل اساتذة جدداً، واذا قبلت يكون الراتب قليلاً وقد لا يكفي اجرة تنقلات الى المدرسة نفسها، وعندما لم أجد بديلاً، قررت التأقلم مع الواقع والعمل بالفرن من أجل العيش بكرامة والإبتعاد عن ذل السؤال والحاجة في ظل الازمات التي تكاد لا تنتهي”.
وناريمان، ليست الوحيدة التي تعمل في الفرن، إذ تشاطرها الطالبة الجامعية ماري متى التي تقول: «انني اعمل بانتظار ان تعود الجامعة اللبنانية الى التدريس مجدداً، منذ خمسة اشهر وهناك اضراب، لقد خضعنا للامتحانات ولم يحددوا موعداً للدورة الثانية او الامتحانات النهائية، وبطبعي لا احب الجلوس في البيت هكذا، فتشت عن عمل ووجدته في الفرن، سعيدة… لانني بطلّع مصروفي لان الوضع صعب”.
وواجهت ماري الاستغراب ذاته الذي سبقتها اليه ناريمان، تؤكد ان «الزبائن يتفاجأون بوجود شابتين في الفرن، ثم يستوعبون الأمر لاننا نعيش في لبنان»، قبل ان تضيف ممازحة: «يدخل البعض وينتظرون شاباً لاعطائه ماهية الطلب وعندما يدركون ان شابة تقف امام الفرن يستغربون، أتمنى ان تنحل الازمة المعيشية والاقتصادية سريعاً ويعود الناس الى سيرتهم الاولى وحياتهم الطبيعية وان كان ذلك حلماً بعيد المنال في السنوات القليلة المقبلة”.
ولم يجد صاحب الفرن دونالد الناشف غضاضة بتشغيل الشابتين في الفرن، يقول: «كان عندي عامل في السابق اما اليوم فشابتان وهما نظيفتان ويتقنان كل شيء»، بينما يؤكد جورج الحايك وهو احد الزبائن من مغدوشة: «ان معاملة الشابتين افضل، وقد لقيتا تشجيعاً كبيراً من ابناء البلدة على قاعدة ان العمل ليس عيباً وبات نادراً في هذه الايام في ظل الازمات الخانقة”.