هل يتمدّد الشلل الحكومي إلى الاتفاق مع صندوق النقد؟
كتب علي زين الدين في “الشرق الأوسط”:
تنعكس حال «عدم اليقين» التي تطغى على التطورات الداخلية في لبنان، بصورة دراماتيكية على سندات الدين الدولية (يوروبوندز) التي هبطت إلى مستويات غير مسبوقة، بحيث هوت القيمة الاسمية لكل دولار إلى أقل من 7 سنتات وبعضها إلى 6 سنتات، رغم محدودية التداولات اليومية على هذه السندات في الأسواق المحلية والخارجية.
ويبدو أن الأسواق تتفاعل بسلبية حادة لجهة تقييم قدرة لبنان على الإيفاء بالتزامات دينه العام، ولا سيما الشريحة الأثقل منه المحررة بالعملات الصعبة. ثم تزيد الترقبات قتامة، حسب مصادر في مؤسسات تحمل محافظ من ديون الدولة، جراء تغليب التوقعات بانكفاء فرص تأليف حكومة جديدة، وربط مصيرها بالضبابية الكثيفة التي تكتنف استحقاق انتخاب رئيس جديد للجمهورية والمفترض دستورياً قبل انتهاء ولاية الرئيس الحالي بنهاية شهر تشرين الأول المقبل.
ويخشى حملة السندات من تمدد الشلل الحكومي المقتصر حالياً على مهام تصريف الأعمال، إلى ملف الاتفاق النهائي مع صندوق النقد الدولي، والخاضع بدوره لرحلة طويلة تفترض إعادة النظر ببنود مفصلية بعد الاعتراضات الواسعة على خطة التعافي الحكومية، ووجوب الاستجابة من السلطتين التنفيذية والتشريعية لاستكمالها بمجموعة من التدابير الإجرائية وإقرار موازنة العام الحالي وحزمة من مشاريع القوانين المالية ذات الاستهدافات الإصلاحية، وفي مقدمها تعديل قانون السرّية المصرفية ووضع ضوابط استثنائية على الرساميل والتحويلات.
وتشكل الأجواء السياسية غير المؤاتية ذريعة إضافية لتمادي الحكومة بتأخير الوفاء بوعودها بإطلاق مفاوضات مباشرة مع الدائنين، بعدما اقتصرت تحركات سابقة وبالتعاون مع استشاري دولي على إعلام كبار الدائنين بالتوجهات الأساسية التي تضمنتها خطة التعافي وتقديم معلومات عن حالة الاقتصاد الكلي وبرنامج الإصلاح الحكومي، إنما من دون التزامات محددة تتعلق بإدارة الديون بالدولار المعلق دفع استحقاقاتها من أصول وفوائد منذ ربيع عام 2020، وذلك ما يشمل نسبة الاقتطاع التي تقترحها وآليات السداد المستقبلية ومهلها الزمنية.
وتقتصر التعهدات الحكومية على التزام مبهم باستدامة مسار الدين العام، والعزم على تقليل الدين العام إلى ما دون 100% من الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2026، وإلى 76% بحلول 2032 على أن يتحقق ذلك من خلال مجموعة من الإجراءات منها ضبط أوضاع المالية العامة ووضع سياسات تعزز النمو وإصلاح المالية العامة وإعادة هيكلة الدين.
ومع الإقرار المسبق بعدم قدرة لبنان على الوصول إلى أسواق المال العالمية، والتعويل حصراً على جمع التمويل السنوي المقدر بنحو 9% من الناتج من المصادر الدولية الرسمية، يستشعر حاملو السندات الدولية باستمرار حال العجز المالي إلى أمد طويل، لا سيما في ظل اتساع رقعة الخلافات بين الحكومة والقطاع المالي بشأن توزيع مسؤوليات وأحمال الفجوة المالية التي تتعدى 75 مليار دولار، وتقلص قدرات الجهاز المصرفي على جذب الرساميل والاستثمارات الخارجية.
وتبلغ القيمة الاسمية الإجمالية لسندات «اليوروبوندز» اللبنانية نحو 38 مليار دولار، كأصول وفوائد تراكمية، وهي محمولة بنسبة تقارب الثلثين من مؤسسات وشركات أجنبية والثلث من قبل مصرف لبنان والجهاز المصرفي ومستثمرين محليين. وهي تسجل أسوأ أداء سوقي على الإطلاق منذ مطلع العام الحالي، بلوغاً إلى مرحلة «الهبوط الحر» الذي عظّم الخسائر التراكمية إلى مستوى قريب من 94% قياساً بالقيمة الدفترية.
وتسود قناعة عامة تعززها تسريبات حكومية، بأن أصول هذه السندات ستتعرض لنسبة اقتطاع مرتفعة للغاية قد تقارب 85% من القيمة الاسمية. لكن الخشية من ردود أفعال المستثمرين الأجانب وإمكانية لجوئهم إلى مقاضاة الدولة اللبنانية في المحاكم الأميركية ذات الصفة المرجعية، ترجح الاستمرار باعتماد سياسة «الغموض» إلى ما بعد عقد الاتفاقية الموعودة مع إدارة صندوق النقد، وبحيث يكون شريكاً متفاعلاً ومراقباً لإدارة الدين العام في مرحلة التعافي، وبما يشمل تحديد نسب الاقتطاع وآليات السداد.
وسيبقى مسار الدين، حسب وكالة «موديز» للتقييم الائتماني، عُرضة بشكل كبير لديناميات نمو وتضخم واحتياطيات عملة أجنبية معاكسة، وهو ما يشير إلى إمكانية تسجيل خسائر إضافية في ظل غياب خطّة إعادة هيكلة تزامناً مع دعم صندوق النقد الدولي والانتقال إلى نظام نمو مستدام، علماً بأن التقييم أبقى لبنان على نتيجة «ca» في معيار التعرض لمخاطر الأحداث، نظراً لمخاطر السيولة والتعرض الخارجي الكبير، إضافةً إلى الانكشاف الكبير للقطاع المصرفي على الدين الحكومي السيادي.
وتؤكد «موديز»، في أحدث تقاريرها، أن أي تحسين في تصنيف لبنان يعتمد على تطبيق إصلاحات جوهريّة على مدى سنوات عدّة من جهّة، وحصول تقدّم ملحوظ في ديناميكيّة الدين كالنمو الاقتصادي ومستويات الفوائد وإيرادات الخصخصة والقدرة على تسجيل فوائض أولّية كبيرة من جهّة أخرى، وذلك لضمان استدامة الدين في المستقبل.
وقد نال لبنان نتيجة «ca» المتدنية في تقييم القوّة الماليّة، وهي نتيجة تعكس دين الدولة الكبير الذي قد يتسبب بخسائر كبيرة للدائنين في حال تعثرت الدولة عن الدفع. أما بالنسبة للقوّة المؤسساتية، فقد سجّل نتيجة «caa3»، ما يعكس الضعف في بيئة الحوكمة وذلك في ظل ضعف فاعلية السياسة الماليّة للدولة تماشياً مع محدودية فاعلية السياسات النقدية والمالية وذاك عند أخذ الضغوط الاقتصادية والخارجية بعين الاعتبار.
وبدورها، تدرج وكالة «فيتش» للتقييم الائتماني لبنان ضمن قائمة الدول المتخلفة عن السداد أو التي تشير عائدات سنداتها في الأسواق المالية إلى حدوث ذلك في 17 بلداً، وهو مستوى قياسي، وذلك إلى جانب باكستان وسريلانكا وزامبيا وتونس وغانا وإثيوبيا وأوكرانيا وطاجكستان وسلفادور وسورينام والإكوادور وبليز والأرجنتين وروسيا وبيلاروسيا وفنزويلا.