أهلاً بكم في السجن اللبناني الكبير
كتبت نوال نصر في “نداء الوطن”:
أن يخسر اللبنانيون كل شيء، كل كل شيء، حتى إمكانية الحصول على جواز سفر يخوّلهم الهروب من “جهنم الحمراء” واقتناص فرصة عمل في مكان ما، ولو فرصة وضيعة، لهو أمر أكبر من قدرتهم على التحمّل. فهل كُتب على بلاد الأرز أن تتحوّل، بمن فيها، الى سجن لبناني كبير؟
أسوأ ما قد يصل إليه شعب هو بلوغه حدّ اليقين بأن السلطات في بلاده تتواطأ عليه. وأكثر ما قد يجعل شباب وشابات لبنان يديرون ظهورهم ويغادرون، عند أول فرصة، هو اشتداد شعورهم بالكراهية تجاه “سلطة” دمّرتهم. شباب لبنان اليوم يمرّون بكل ما من شأنه تعزيز الإحباط وربما الرحيـــل الى اللاعودة. جورج ومحمد وإميل ووائل وموريس وهند وأنطوانيت وحسين وجو وأحمد وغوى وعباس… جميعهم ما زالوا يصارعون من أجل “أفق” ما، من أجل شعاع نور يلوح في سماء ما، لكن، أوّل ما قد يحتاج إليه “حالم” هو “باسبور”، هو جواز سفر، يسمح له بحفر النفق المظلم ولو بإبرة.
قصة موريس
فما بال كل هؤلاء الشباب؟ لماذا كل هذا القهر البادي في عيونهم وعباراتهم وسلوكياتهم؟ موريس ضوّ، واحد من هؤلاء. هو ولد في الحرب اللبنانية الباردة، وكبر في كنفِ كل الفصول الساخنة التي اجتاحت البلاد على مدار عقود ثلاثة، وها هو اليوم، في زمن القلة والتعتير، يخسر ثلاث فرص عمل في الخارج لأن جواز سفره ينتهي بعد شهرين وتأشيرات السفر لا تعطى لجوازات تفقد صلاحيتها بعد ستة أشهر. هو مقهور جداً. هو كتب عن “السواد المحيط” على حسابه الشخصي في “لينكد إن”. فهل خفت غضبه قليلا بعد أن أعلن عن استهتار الدولة اللبنانية به وبكل ناسها؟ بصوتِ شاب حالم بوطن وإنسان تكلم. هو يعمل في جمعية “إنسان”، في بلد بات صعبا فيه أن يكون الفرد إنسانيته ويعيش كل الأزمات والويلات ويبقى يمدّ اليدّ الى كل الآخرين المحتاجين، ممن يتوسلون خبزاً ودواء ونسمات هواء. موريس يعمل الى جانب “إنسان” في مشاريع يوقعها مع الخارج، فيسافر شهراً أو اثنين، ويعود. وهو، على ما أخبرنا، خسر مشروعين متواضعين لكن ما حدث اليوم وجعله يتكلم، أن المشروع الجديد الذي عرض عليه مدته 9 أشهر، مع كل التقديمات التي يتمناها أي شاب أو شابة، شرط أن يلتحق في ثلاثة أسابيع. ولبنان، الذي توقف فيه الزمان من زمان، لا يبالي بالمهل ولا بالحقوق والواجبات ولا يهمه لا موريس ولا سواه. فهل تتخيلون حجم الإحباط الذي لحق بالشاب كما بسواه من الشباب؟
قدّم موريس طلب الحصول على جواز سفر جديد في تشرين الأول 2021. وحصل على موعد في 25 تموز 2022. الموعد إقترب لكن فرصة العمل لن تنتظر. إتصل بالرقم 1717 فلم يجبه أحد. سمع عن “واسطة” لكنه لا يعرف كيف يدق هكذا باب. لماذا قرر موريس اليوم ان يكتب عن “الظلم” الذي يشعر به؟ يجيب “لأن حجم الخسارة اليوم، بالنسبة لي، كبير جداً. هي فرصة عمل أتتني أخاف أن لا تتكرر. وأكثر ما يزعجني هو أن بعض الناس يأخذون موعداً على المنصة في نفس النهار وقيل لي ان أصحابها يدفعون “فريش”. ويستطرد: “لا اعرف كيف؟ والى من؟
موريس ضوّ يعمل في جمعية تعنى بالإنسان. فهل بدأ يفقد ثقته في إمكانية ان يستعيد الإنسان كرامته وحقوقه في لبنان؟ يجيب “لا، لا ولن أفقد حماستي بالإنسان لكن ما أخاف منه هو فقدان حماستي لبلدي. مساعدة الناس ستظل أمنيتي والمسعى الذي أنتهجه”.
نستشعر كثيراً من القهر في كلام موريس ضوّ. نشعر بدورنا بكثير من القهر ونحن نسمعه يقول: خسرت حتى الآن ثلاث فرص عمل وآخرها البارحة. هناك من مازحوه بالقول: عليك من اليوم وصاعداً تضمين النبذة، في لينكد إن، مدة صلاحية جواز سفرك. هي مزحة لبنانية لكن ثقيلة.
“نشعر وكأننا نكرر أنفسنا ونحن نتكلم عن أوجاعنا لذا بتنا نلتزم الصمت”. نصغي الى الشاب عباس يقول ذلك. يبدو مستسلما جداً بعد كل ما أصابه وربما حين يشتد القهر لا يعود الإنسان قادراً على الإنتفاض والصراخ: كفى. فهل تراهن المؤسسات في لبنان على ذلك؟
الثابت أن الأمن العام يتعامل (أو كان يتعامل) بكثير من الإحترام مع الناس، لكن ما حدث في الفترة الأخيرة أنه فقد، كما سواه، إمكانيات الحراك مادياً، وما عاد قادراً على سداد كلفة الجوازات، ولا على إستيعاب العدد الهائل من المواطنين، طالبي الجوازات. لهذا، وبما أننا في زمن “المنصات”، أنشأ واحدة. دخلنا عليها في الثلاثين من حزيران أي البارحة. وطلبنا موعداً مستعجلاً فحصلنا على أقرب موعد في 21 آب 2023، ويصادف يوم اثنين. عدنا وطلبنا اقرب موعد غير مستعجل فحصلنا على واحد في 30 أيار، أي قبل المستعجل بنحو ثلاثة أشهر. إنه أمر غريب عجيب لا يحصل إلا في لبنان. شروط كثيرة، متغيرة، يخضع لها طالب جواز السفر. الأمن العام يريد إثباتات كي يمنح جواز السفر الذي هو حق من حقوق أي مواطن على سطح الكرة الأرضية.
في كل حال، فلننظر الى نصف الكوب الملآن. الأمن العام، الذي علق تلقي طلبات المواطنين الراغبين باستصدار جوازات سفر جديدة في أيار الماضي، عاد ليمنحها من جديد وفق المنصة. الأمن العام لديه مشاكله الكثيرة التي تحدث عنها مرجع فيه قائلا: “كثيرون يتواطأون في لبنان على المؤسسات والشعب. ثمة شركات وهمية سارعت الى حجز كثير من المواعيد لتستفيد من بيعها”. الدولة مقصرة. هناك، في الأمن العام، يتحدثون عن ذلك. والإذلال الذي يعيشه اللبنانيون سببه “الدولة” لا هم.
جواز السفر كربطة الخبز
لم يبق أحد في لبنان لم يطلب “باسبور” إلا الأموات الذين لم يشطبوا عن اللوائح الرسمية. جواز السفر، مثله مثل ربطتي الخبز في البراد، مثل الدواء المؤمن لشهرين الى الأمام في بيوت اللبنانيين، مثل تنكة البنزين المخبأة في الغرفة الخلفية، تبعث بعض الطمأنينة لدى نفوس اللبنانيين الغارقين في العتمة. الأمن العام الذي كان يعطي 800 جواز سفر يوميا بات يعطي 7000 جواز سفر. هذا طبعا كثير عليه، وقد لا تكون مسؤوليته المباشرة في ما آلت إليه الأوضاع وتسببت بخسارة موريس، ومن هم مثل موريس، فرصة لاحت في الأفق. لكن، ماذا نقول لموريس ورفاقه؟
هناك، في الأمن العام، يتريثون كثيرا قبل الكلام، وحين يتكلمون يرددون، مثل الببغاء، نفس الكلام غير المفهوم مع اشتراط عدم ذكر الأسم والرتبة. ومما سمعناه: “لسنا نحن من نقصّر. نحن نقوم بالواجب، وكل الوزارات المعنية تعرف ذلك”. ما نسمعه في الأمن العام يُشبه ما نسمعه من مصادر القصر الجمهوري، وما سمعناه في السراي الحكومي، وفي وزارة الأشغال والصحة والتربية والطاقة… التقصير يأتي من مكان ما، من مكان آخر
إذا قلنا أن نصيب الشاب موريس كان خسارة فرصته في جواز سفر يفتح له طاقة في الجدار المظلم، فما الحلّ بالنسبة الى الشباب الذين ينتظرون فرصة عمل ما؟
يتحدثون في الأمن العام عن “مكاتيب” قد ترسل الى مدير عام الأمن العام تتضمن شرحا عن وضع طالب الجواز وهو يجيب عنها في غضون 36 ساعة كحد أقصى”. هنا، تبدو المشكلة في “السامعين” الذين ما عادوا يصدقون أن شيئاً من هذا القبيل قد يحصل. الشباب فقدوا قدرتهم على التصديق بأن إدارة ما يمكن أن تمشي ببلد ما، مثل بلدهم، على السكة. في كل حال، يُحكى في الأمن العام عن حالات كثيرة لجأت الى تلك الوسيلة وحلّت أزمتها. حاولوا ولن تخسروا أكثر من كل ما خسرتموه.
هناك مسبّب. هناك مقصّر. وهناك متخاذل… في الأمن العام، يتحدثون عن ذلك، لكنهم يأبون توجيه أصبع الإتهام مباشرة الى الجهة او الجهات الذي تخاذلت عن دفع مستحقات كلفة طباعة الباسبورات. فهل هي المالية؟ مجلس النواب؟ مجلس الوزراء؟ الدولة بأمها وأبيها؟ في الأمن العام يتحدثون عن حق كل الناس في الحصول على جواز السفر والتنقل والانتقال لكن ليس بالإمكان أكثر مما كان. اللبنانيون، في المقابل، أصبحوا على يقين ان ليس هناك ما هو أشد مأسوية من ملاقاة جهة تتخبط في العجز ضائعة في متاهات الإنهيار.