أطفالنا «كبش محرقة» الانهيار
يعاني لبنان وطأة الأزمات المتتالية التي أدّت إلى الانهيار الاقتصادي الكامل. جيل بكامله اليوم ينشأ بظروف كارثية أدّت إلى تغيير نمط الحياة لدى معظم الأُسَر والتلاعب بكل جانب من جوانب حياتها. أزمة بعد أزمة يتأثر بها الكبار بمقدار هائل في النواحي والمستويات، فما حال صغارنا؟
تقول المعالجة النفسيّة مارتين الزغبي لـ«الجمهورية»، إنّه «منذ بدء جائحة كورونا والأزمة الإقتصادية في البلد، والأزمات التي تبعتها، تغيّر سُلّم الحاجات لدى المواطنين. ففي السابق كنّا نطلب من الأهل تلبية حاجات أولادهم بحسب «هرم ماسلو» للحاجات الأساسيّة (والذي يشمل: الحاجات الفسيولوجيّة، حاجات الأمان، الحاجات الاجتماعيّة بالإضافة إلى الحاجة للتقدير والحاجة لتحقيق الذات)، ومن غير الضروري تلبية رغباتهم، بما معناه أنّهم مُجبرون على تلبية كل حاجات أولادهم، إلّا أنّهم غير مُجبرين على تلبية كلّ رغباتهم.
أمّا اليوم، فباتت أولى الحاجات لدينا هي الفسيولوجيّة، وتشمل الهواء والطعام والماء والملبس والمأوى والنوم… أي الحاجات الأساسية للعيش التي لم تعد في معظمها قابلة للتأمين بسبب الوضع الاقتصادي، وهذا ما جعل الأهل يسمحون لأولادهم بالهروب من الواقع، من خلال استخدام التكنولوجيا والألعاب الإلكترونية. وهنا يمكننا القول، انّ العالم الافتراضي جاء كالنّعمة للأهل لكي يعوّضوا قليلًا عن عدم تمكّنهم من تلبية حاجات أولادهم ولتخفيف شعورهم بالذنب تجاههم. وبالتالي أصبحت الشاشة تلبّي للأولاد رغبات لم يعد بمقدور أهاليهم تأمينها، تشمل التواصل مع الآخر، والرّبح، والحماس، والتسلية، وإمرار الوقت…
صعوبة في التفاعل خارج العالم الافتراضي
ولأنّ أطفالنا يقضون ساعات طويلة أمام الشاشة، لم يعودوا قادرين على التأقلم مع الحياة العادية الخارجة عن العالم الافتراضي. لذلك، بتنا نلاحظ في معظم المدارس أنّ الأولاد لم يعودوا قادرين على الإصغاء للآخرين، وعلى انتظار دورهم للإجابة في الصفّ، وهذا بسبب عدم معرفتهم أسس التواصل، لأنّهم اعتادوا على المحادثات في العالم الافتراضي، حيث لا داعي لانتظار الآخر لينهي كلامه قبل أن نجيب. كما أنّهم يجدون صعوبة في التعبير بالكلام أو بالحركة، وأصبحوا في حاجة الى «emoticons» أي الرموز الانفعالية التي نستخدمها في المحادثات عبر وسائل التواصل الإجتماعي لكي يعبّروا عن مشاعرهم، ولم يعد في استطاعتهم الانتظار للحصول على ما يريدون. وهنا يمكننا القول، انّه بات أطفالنا يعانون ضياعاً بين العالم الافتراضي والواقع، وتغيّر كل مفهوم القيَم لديهم، فلم يعد في إمكانهم التمييز بين الصح والخطأ أو فَهم أنّ ما يستطيعون فعله في العالم الافتراضي لا يستطيعون نقله إلى العالم الحقيقي.
إنهيار تعلّمي
إذًا، الإنهيار الاقتصادي الحالي يحوّل الجيل الصاعد من جيل لديه قيَم إلى جيل ليس لديه سوى مهارات إلكترونيّة/ معلوماتيّة.
وأشارت الزغبي إلى أنّ الإنهيار الإقتصادي الذي أدّى إلى انهيار صحي وأخلاقي واجتماعي، أثّر أيضًا بمقدار كبير على المستوى العلمي، بحيث بات من الملاحظ أنّ معظم التلاميذ لم يعد في استطاعتهم التركيز في الصفّ، وأصبح استيعابهم بطيئاً جداً، وهذا ما حتّم على الأساتذة أن يجهدوا لكي يلفتوا انتباههم أثناء الشرح.
في السياق عينه، تؤكّد الزغبي وجود انهيار تعلّمي، حيث «بتنا نشهد تدهوراً في مستوى التعلّم بين تلاميذ لبنان. فمن جهة، لم يكن التعلّم عبر الإنترنت أثناء الحَجر في لبنان كافياً للتعويض عن أيام الدراسة الطبيعية، ومن جهة أخرى لم يكن لدى معظم الأهل الجهوزيّة الكافية لمواكبة ومتابعة أولادهم أثناء التعلّم من المنزل، وهذا ما أدّى اليوم إلى وجود صعوبات تَعلميّة لدى نسبة كبيرة من الأولاد».
الإنهيار التعلّمي كارثة الكوارث في لبنان اليوم، خصوصاً في ظلّ الأزمة الاقتصاديّة وعدم قدرة الأهل على تعويض النقص التعلّمي لدى أولادهم من خلال توظيف معلّمة في المنزل لمساعدتهم، أو إحالتهم إلى مُعالج نطق أو عالم نفس. وتحذّر الزغبي من «أنّنا على النطاق التعلّمي أمام مأزق كبير ومستقبل مخيف لدى التلاميذ. فنحن اليوم أمام نسبة كبيرة منهم لديهم صعوبات أو اضطرابات تعلميّة نعجز عن حلّها ومعالجتها بسبب المشكلات الماديّة. وهذا الأمر قد يؤدّي بكثير من الأطفال إلى ترك المدرسة قبل الأوان».
إنهيار أخلاقي وكارثة على الصعيد النفسي
على صعيد آخر، تشير الزغبي إلى «أننا أمام انهيار أخلاقي يمكن أن يؤدي إلى تغيير في وجهة المجتمع اللبناني، وبدأنا نشهد على بوادر هذا الأمر في الفترة الأخيرة، عبر انتشار البِدع والمعتقدات والقيم التي لا تشبه مجتمعنا، بين الأطفال والمراهقين، وهذا الأمر يعود لاستغلال بعض الجهات وجود الأطفال والمراهقين لفترات طويلة عبر مواقع التواصل الإجتماعي وبلا رقابة في معظم الأحيان، لكي تبث لهم معتقداتها وأفكارها بطريقة جذّابة وذكية وتؤثر على عقولهم وتصرفاتهم». وتضيف: «بتنا نلاحظ أنّ الأولاد أصبحوا يتعلّمون من بعضهم ويجعلون من أنفسهم أهلاً على بعضهم بفضل مواقع التواصل الاجتماعي التي يلجأون إليها لتمييز الصواب من الخطأ، وهذا يعني أننا انتقلنا من السلطة الأبويّة على الأطفال والمراهقين إلى السّلطة الرقميّة على صغارنا، وهذا الأمر خطير جداً».
ويمكننا إضافة أنّ نتيجة الانهيار الاقتصادي الذي يعوق حصول أطفالنا على حاجاتهم الفسيولوجيّة التي هي أولى وأهمّ حاجات العيش، ستُترجم حتمًا بتوليد عنف أو كآبة، أي ستولّد أمراضاً نفسيّة.
إقتراحات وتوصيات تساعد الأهل
– يجب أن يحاول الاهل تعويض النقص الحاصل على النطاق المادي والحاجات. أبسط الأمثلة على ذلك: يمكن استبدال نوع شوكولا غالي الثمن، بآخر أقل ثمنًا، لكي لا نُشعِر ولدنا بالحرمان.
– يجب التفسير لأولادنا الأزمة الماديّة وطَمأنتهم الى أنّهم «لن يموتوا من الجوع»، مع ضرورة تجنّب التعابير والألفاظ السلبيّة أمامهم، لأنّها تولّد القلق والاكتئاب لدى الولد.
– يجب أن يحافظوا على التواصل الدائم مع أطفالهم.
– يجب أن يتثقّفوا من الناحية التكنولوجيّة، وأن يواكبوا جيدًا آخر صيحات الإنترنت، لكي يعرفوا المحتوى المقدّم لأطفالهم، ويتمكّنوا من فهم ما قد ينتج منه.
– يجب أن يكون لديهم وصول إلى هواتف أطفالهم والاطلاع على المحتوى الذي يشاهدونه، مع ضرورة التدخّل عند الحاجة مع الولد والتواصل والنقاش الدائم.
– للأهل غير القادرين على إحالة أطفالهم إلى اختصاصيين نفسيين أو اختصاصيين في النطق والحركة، أصبح هناك عدد من الجمعيّات غير الحكوميّة تتكفّل بالعلاج المجاني للطفل، فلا تتردّدوا في البحث عنها ومساعدة طفلكم في تخطّي صعوباته.
الأطفال هم الحلقة الأضعف في المجتمع، وهم في الوقت عينه مستقبل الوطن، للأسف دولتنا التي دمّرت كل القطاعات ساهَمت في حرمان أجيال المستقبل من حقوقها الأساسيّة للنمو. المسؤوليّة تقع على عاتقكم أيها الأهل، واليوم باتت أكبر… ففي أيديكم إعمار لبنان المستقبل أو دماره!
المصدر : الجمهورية