كتبت زيزي إسطفان في “نداء الوطن”:
«”وينيي الدولة؟”» صرخة انتقادية يطلقها المواطن المقهور مع كل مسألة يواجهها وربما كان الأجدر به أن يسأل “«وينيي البلدية؟”» لأنها الإدارة المحلية الأقرب إليه وإلى شؤونه اليومية وقد ثبتت أهمية دورها خلال جائحة كورونا حيث استطاعت أن تكون الرقيب والحامي والمدافع عن صحة الناس. صلاحيات البلدية ومسؤولياتها كثيرة لكن مشاكلها وتحدياتها أكبر ومع تأجيل الاستحقاق الانتخابي البلدي هل يمكن للبلديات الصمود لسنة أخرى في وجه الأزمة المالية العاتية و هل يمكنها أن تكون نواة اللامركزية الإدارية الموسعة المأمولة
من الصحّة العامّة، والتنمية المدنية الى البناء والخدمات العامّة والأمن المحلي وتنظيم الطرقات وتنظيفها وصولاً الى التخلّص من النفايات، كلها صلاحيات منحها القانون للبلديات. ولكن بين القانون والقدرة على التنفيذ تتسع الهوة يوماً بعد يوم لا سيما في السنتين الأخيرتين حيث تحاول البلديات التي تعاني أصلاً من نواقص بشرية ومالية وتنظيمية وتأهيلية كبيرة الصمود باللحم الحي لتأمين رواتب موظفيها أولاً واحتياجات المواطنين في نطاقها ثانياً. الحال أكثر من مأسوية والإفلاس كما يؤكد البعض ليس مستبعداً في كثير من البلديات.
من ضمن مشروع تمكين البلديات وتعزيز قدرتها على الصمود الذي نظمه برنامج الأمم المتحدة الإنمائي UNDP وبرنامج الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية UN-Habitat والإتحاد الأوروبي بالشراكة مع «أفكار مؤسسية مبتكرة»Innovative Institutional IDEAS تحت رعاية وزارة الداخلية والبلديات وبالتنسيق مع المديرية العامة للإدارات والمجالس المحلية، تم مؤخراً الكشف عن نتائج مشروع التقييم المالي للبلديات الذي تم على عدد من البلديات والاتحادات وبيّن وجود مشاكل بنيوية في عمل البلديات حيث أن الهيكلية الوظيفية تعود الى ستينات القرن الماضي. وأمكن تلخيص هذه المشاكل تحت أبواب خمسة أولها الإطار المؤسساتي ومن ضمنه رؤية البلدية وبرامج عملها وإدارة الموارد البشرية حيث يعاني معظم البلديات من وجود عدد كبير من الوظائف الشاغرة ونقص حاد في الموظفين وغياب التدريب لهؤلاء.على صعيد الإدارة فإن معظم البلديات لا تملك رؤية استراتيجية للاحتياجات وما يمكن ان يواجهها من تحديات كوحدة إدارة الكوارث على سبيل المثال. وبالرغم من ان بعض البلديات لديها إدارة جيدة للسجلات المالية والإدارية، فإن معظم البلديات تفتقر الى أنظمة متطورة إلكترونية لحفظ الملفات وتخزينها. وبشكل عام لا تزال تستخدم تكنولوجيا المعلوماتية بشكل محدود في أعمالها المالية ولا خطط عمل لاستخدامها بشكل أفضل. كما أن العنصر البشري لصيانة انظمة المعلوماتية غير موجود ويتم التعاقد مع شركات خاصة. كذلك يفتقد معظم البلديات الى الشفافية في التعاطي مع الأمور المالية وغيرها وهو أمر يؤثر بشكل كبير على تعاطيها مع الجهات المانحة التي تتعامل مع شفافية المعلومات بجدية كبيرة. أما على صعيد المؤشرات الاجتماعية الاقتصادية فثمة نقص فادح في المعلومات التي يجب ان توفرها البلديات بالنسبة لعدد السكان مثلاً او نسب الولادة والتعليم والهجرة حتى المؤسسات الانتاجية والتجارية فيها وكلها معطيات ضرورية كي تحدد البلدية اولوياتها، كما إن إجراء مسح مستمر لها أمر اساسي وحيوي. اما بالنسبة الى التقييم المالي فمشاكل البلديات تتشعب من حيث قدراتها وإدارتها المالية لا سيما مع قدرة متدنية على تحصيل الرسوم وعدم وجود احتياطي موازنة في معظم البلديات وعدم توزيع الصندوق البلدي بشكل واضح ومنتظم زمنيأ (على الوقت) ما يمنع البلديات من إمكانية وضع موازنة واقعية. وتبقى أخيراً المشاكل القانونية التي تواجهها البلديات وتحد من قدراتها.
في حديث مع السيد محمود البتلوني رئيس شركة «أفكار مؤسسية مبتكرة» عن نتائج هذه الدراسة وعن رؤيته لوضع البلديات، كشف أن معظم البلديات يمر اليوم بوضع صعب ويكاد يكون غير قادر على تأمين الخدمات الضرورية ورواتب الموظفين. وعن سؤالنا ما إذا كانت البلديات قادرة على تكوين النواة للامركزية الإدارية أجاب البتلوني «أن البلديات في المبدأ هي أهم عنصر في اللامركزية الإدارية والصلاحيات المعطاة لها كبيرة جداً وتؤهلها للقيام بهذا الدور لكن الإشكالية هي في عدم وجود قدرات إدارية ومالية للقيام بالمهمات الملقاة على عاتقها. ويرى البتلوني أنه لا يمكن طرح شكل جديد من أشكال اللامركزية الإدارية على حساب البلديات والأجدى إعطاؤها القدرات اللازمة بدل الهروب الى الأمام وطرح هيئات لامركزية جديدة. فأي كلام عن توسيع اللامركزية الإدارية لا يمكن أن يكون مجدياً ما لم يتم دعم البلديات وتزويدها بما يمكّنها من الوقوقف على أرجلها من قدرات إدارية وبشرية ومالية ومتى نجحت تجربة البلديات يمكن حينها توسيع مفهوم اللامركزية الإدارية».
البلديات اليوم تتنفس فقط وكأن ثمة قرار بتركها في مواجهة مع الناس تؤمن لهم الحد الأدنى من الاحتياجات من دون تزويدها بإمكانات لمواجهة التحديات الكثيرة التي يتطلبها دورها. ويحذر البتلوني، بناء على معرفته بواقع البلديات المأزوم أصلاً، من ألّا تتمكن من بلوغ الاستحقاق الانتخابي البلدي وأن تصل الى مرحلة الإفلاس المالي قبل الانتخابات وهذا تخوف جدي في ظل الصعوبات الكثيرة التي تعانيها. ويؤكد أن أوضاع البلديات قد تفاقمت بشكل كبير منذ العام 2020 وحتى اليوم «فالجباية البلدية وإن تكن لا تزال موجودة ولو بحدها الأدنى لم تعد لها اية قيمة فيما القدرة الشرائية للبلديات قد تراجعت والخدمات ارتفعت كلفتها بشكل كبير. وحتى أموال الصندوق البلدي هي اليوم محجوبة عن البلديات وحتى لو تم الإفراج عنها فهي بالكاد تكفي مع تراجع واردات الدولة».
سابقاً كان لدى بعض البلديات ولا سيما الكبيرة منها فائض مالي مكنها من الصمود حتى اليوم ولكن هذا الفائض قد تبّخر فيما معظمها كانت لديها صعوبات مالية في الأصل واليوم إذا ما تقاعد أحد الموظفين فإن البلدية غير قادرة على تأمين تعويض نهاية الخدمة له. وليس هذا إلا نموذجاً صغيراً عن وضع البلديات المأزوم التي لم تعد قادرة على تأمين رواتب موظفيها أو أقله زيادة رواتبهم لتتماشى مع واقع الحال اليوم وكيف يمكن ان ينعكس هذا الوضع على واقع البلديات وقدرتها على القيام بما هو مطلوب منها.
« الأولوية اليوم هي لمد البلديات بما يمكّنها من الاستمرار يختم رئيس «أفكار مؤسسية مبتكرة»Innovative Institutional IDEAS كلامه مؤكداً أن خطة التعافي لاحقاً لا بد أن تشمل دور البلديات، كذلك لا بد من إجراء نفضة لمفهوم الصندوق البلدي من خلال قوانين جديدة تحدد دوره وإدارته». أما التوصيات التي يطرحها والتي تم طرحها عبر مشروع تمكين البلديات فهي التوجه الى الجهات المانحة التي يمكن ان تلعب دوراً مباشراً في عملية تقوية دور البلديات من خلال المساعدات الممنوحة للمشاريع التي تحتاج إليها.
في تماس يومي مع مشاكل البلديات الكبيرة كما الصغيرة يتحدث الريس حسن دبوق رئيس بلدية صور ورئيس اتحاد بلدياتها الذي يضم 60 بلدية الى «نداء الوطن» شارحاً وضع البلديات ومختصراً إياه بأنها تسير بقدرة غريبة. فالبلديات الصغيرة تسير على التبرعات التي تأتيها من مواطنين او مغتربين مقتدرين وهذه التبرعات تكفيها لتسيير أمورها الأساسية أو القيام ببعض المشاريع الإنمائية، اما البلديات الكبيرة فمعاناتها أكبر ومصاريفها أوسع وبعضها يضم ما يقارب 170 موظفاً هي مسؤولة عنهم ولا يمكن للتبرعات أن تغطي هذا الحجم من الإنفاق فحجم البلدية وعدد موظفيها يحدد بداية احتياجاتها المالية. والجباية لا تزال بالليرة اللبنانية فيما كل المصاريف بالدولار.
بصراحة مطلقة يقول دبوق «بإمكاننا أن نصمد ثلاثة أشهر فقط إن لم ننل حصتنا من الصندوق البلدي. الدولة أصدرت قراراً بزيادة رواتب الموظفين والعمال وهذه خطوة صحيحة لا بل أقل الواجب تجاههم لكنها في الوقت نفسه رتبت على البلديات أعباء مالية كبيرة وفي حين يتم منح سلفة خزينة لمؤسسات الدولة فإن ذلك لا ينطبق على البلديات ونحن اليوم ندفع الرواتب والزيادات عليها من اللحم الحي ولا يمكننا تجاهل ذلك حتى يتمكن العمال من تأدية وظائفهم والحضور الى مركز عملهم. ولحسن حظنا ان معظم موظفينا من داخل المدينة ولا أعباء تنقل عندهم ومعظمهم نتعامل معهم بالمحبة والمونة، أما من كان من خارج المدينة فلا بد من مساعدته ببنزين شهري ليصل الى عمله. المصاريف زادت 20 ضعفاً يؤكد دبوق وليس لدينا أي زيادة في المدخول ولا مصادر مالية أخرى، نحن في أزمة ولا يمكن ترك الأمور على ما هي عليه والحلول ليست مستحيلة».
لا شك ان مستوى الخدمات في كل البلديات قد تراجع ولكن ثمة خدمات لا يمكن التغاضي عنها وأبرزها النفايات التي هي أولوية مطلقة كما يؤكد حسن دبوق ولا بد لكل بلدية أن تعيد ترتيب أولوياتها وتستغل الإمكانيات المتوافرة لديها لتأمين هذه الأولويات.
نسأل رئيس اتحاد بلديات صور إن كان الاتحاد جاهزاً للانتخابات البلدية المقبلة فيقول «القرار أن نمشي بالانتخابات لا سيما أن معظم البلديات تحظى بتأييد الأحزاب ومباركتها وكذلك العائلات لكن السؤال كيف يمكن للبلديات أن تصمد مدة سنة حتى الانتخابات؟ ويؤكد ان بعضها لن يستطيع الصمود والخطورة في الأمر أن تنشأ إدارات ظل رديفة مثل الجمعيات التي تحظى بتبرعات كبيرة وتكون قادرة على إنجاز خدمات، أو أن تقوم قوة ما بفرض الجباية على الناس. ففي غياب من يتولى المسؤولية لا بد أن يولد أحد ما لتوليها فالطبيعة تكره الفراغ وكل تقاعس للبلديات سيجد من يملأه. المستقبل قاتم يؤكد دبوق وسنة هي مدة طويلة جداً ولا بد من التفكير باستمرارية البلدية قبل التفكير برؤسائها. ولا بد من إيجاد حل قريب لمعاناة البلديات يوصف المشكلة أولاً لإيجاد حلول صحيحة وناجعة لها تكون حلولاً مستدامة تؤمن استمرارية وجود ودور البلديات قبل التفكير بأية مسميات أخرى مثل اللامركزية الإدارية او غيرها».