لبنان يتحوّل إلى “عصفورية انتخابات”
جاء في “اللواء”:
عند منتصف الليلة المقبلة في 15 آذار (غداً الثلاثاء) يكون مشهد الترشيحات للانتخابات النيابية المقبلة، اكتمل، حاملاً معه قرارات، من أنواع شتى، تتماهى أو تتباين مع أو عن «الفسيفساء» اللبنانية المكوّنة لممثلي الطائف، والقوة الحزبية والتيارات الملونة، على الرغم من خروج التيار الأزرق من عملية فرز الألوان هذه، حتى؟ ولو كانت «السماء زرقاء»، (وهو أحد شعارات الحملة الانتخابية للتيار هذا في واحدة من المحطات الانتخابية بعد العام 2005).
المسألة، تتخطى عدد المرشحين، إلى ما يمكن وصفه هوية هؤلاء، وتاريخهم السياسي والانتخابي، ومصائر اللوائح التي يمكن أن تفوز بالحواصل الانتخابية، وفقاً للنظام الانتخابي المعمول به، بعد أن سقطت «الميغاسنترز»، وقَبِل بهذا السقوط التيار البرتقالي (على الرغم من مناطحته لدرجة أنه كان يميل إلى تأجيل الانتخابات 3 أشهر، ولم يفلح بذلك).
قبل موعد إقفال باب الترشيحات، تحوَّل البلد إلى ما يمكن وصفه بـ«العصفورية الانتخابية»، مع انقشاع سقوط العقبات واحدة تلو الأخرى، وإصرار كلّ من الرئيسين نبيه برّي ونجيب ميقاتي على إجراء الانتخابات في ضوء الرسائل الدولية، التي كانت تصل تباعاً بأن عواقب وخيمة تنتظر هذا البلد، وخططه لإستعادة مكانته المالية والاقتصادية، سواء عبر برنامج الكهرباء المتعثر أو الإمدادات المالية من صندوق النقد الدولي، التي دخلت في غياهب الشكوك والضغوطات والترسيم البحري وما شاكل..
في عصفورية البلد هذه الانتخابية، بدا المشهد يتخطى التحالفات أو الترشيحات أو الائتلافات، ما قبلها إلى ما بعدها، في مشهدية عاصفة، تتخطى الطقس العاصف أو البارد، إلى ما يمكن وصفه مصائر الطوائف في ضوء متغيرات ما بعد حرب القرم، المعروفة إجرائياً، بالحرب الروسية- الأوكرانية، والتي وضعت الكوكب كلّه، لا سيما أوروبا، في وضع لم تشهده منذ مؤتمر يالطا ونهاية الحرب العالمية الثانية، وترتيبات الانقسام على مستوى القرار في دول المركز بين نظم رأسمالية، يمثلها عسكرياً حلف الناتو، ونظم اشتراكية تهاوت بدءاً من أواخر ثمانينات القرن الماضي، وكان يمثلها حينها «حلف وارسو» الذي انتقل كل ميراثه إلى الجيش الروسي، الذي يخضع لأوامر فلاديمير بوتين، الذي ما يزال يقبض على سلطة القرار في الاتحاد الروسي، منذ أن خلف بوريس يلتسين في رئاسة الدولة التي عادت قيصرية بعد أن كانت إمبراطورية شيوعية عظمى..
تأثر اللبنانيون بالحرب الدائرة، وها هي تقترب من إنهاء أسبوعين ونيّف على اندلاعها، على مستويات عدة: إرتفاع أسعار المواد الغذائية الضرورية من القمح إلى الزيوت إلى مواد أخرى، اضطراب في أوضاع عشرات الطلاب اللبنانيين الذين كانوا يدرسون في الجامعات الأوكرانية، فضلاً عن ضياع ملايين الدولارات للبنانيين كانوا من شركاء «الأوليغارشية الروسية» التي يفرض عليها جون بايدن (الرئيس الاميركي) العقوبات التي أوصلت «الروبل الروسي» إلى أدنى مستويات في الأسواق المالية الدولية، بعد إخراج روسيا وبوتين وبطانته من نظام الـ «سويفت» المصرفي العالمي.
على أن الأخطر، لم يتضح بعد، في ضوء الغليان الداخلي بين بحث عن أسواق بديلة لشراء مستلزمات «الغذاء اللبناني» أو إيجاد ظروف أفضل للحدّ من التداعيات في مجال الطاقة، مع حرب الغاز والنفط على جبهة المواجهة الجارية في أوروبا بين الولايات المتحدة والاتحاد الروسي، في ما خصَّ تغذية أوروبا بالغاز الروسي أو إمدادات النفط، مع الارتفاع الهائل في سعر برميل النفط، لدرجة أن ليتر البنزين، بات يساوي 2،1 يورو، بإرتفاع ذكَّر الأوروبيين، بما جرى في حرب أو كتوبر 1973 عندما استخدمت المملكة العربية السعودية سلاح النفط ضد الغرب والولايات المتحدة..
تجري الانتخابات، أو لا تجري لسبب قاهر، كاندلاع حرب أو حدث أمني كبير أو أي شيء يحدث، وهو غير متوقع، لم يعد أمراً مهما؛ المهم الآن، كيف تجري في ظل البحث عن مصائر الطوائف، ومكانتها في ظل العودة إلى الحرب ما بعد الباردة، أي الحرب بالأسلحة البالغة التطور (البالستية والطائرات العملاقة) فضلاً عن التلويح باستخدام السلاح النووي… وعودة التوتر الى الوضع الإقليمي، من باب المجابهة الحامية، والمتوقع أن تشتد بين المحور الايراني، والمحور الغربي- العربي- الإقليمي الآخر..
لم يكن استهداف القنصلية الأميركية في أربيل العراقية، عاصمة إقليم كردستان فجر أمس بـ12 صاروخاً بالستياً بالحدث العادي، الذي سرعان ما قالت عنه إيران بأنه استهداف لمواقع إسرائيلية، حسب التلفزيون الرسمي الإيراني، الذي وصف المواقع بـ «قواعد إسرائيلية سرية»، وسط ترجيح بأن مصدر القصف إيراني، رداً على مقتل ضابطين في الحرس الثوري الإيراني في غارة إسرائيلية على مواقع سرية في سوريا..
هو يعني لبنان، عملياً، من زاوية حزب الله، المنخرط في صراعات المنطقة، كجزء فاعل، من أجزاء أو مكونات المحور الإيراني، الذي يرى تعاطفاً قوياً مع روسيا في حربها ضد الغرب في أوكرانيا..
إذاً، في لعبة «المصائر الطائفية»، ووسط نار الأسئلة المحترقة، تمضي الاستعدادات اللبنانية للانتخابات.. أزمات حادّة، عقوبات قاتلة، تهديدات مخيفة، انقسامات غير مسبوقة، تحالفات تمسّ بها «جن الخلافات» والريبة.
على جبهة المسلمين، يعتكف المسلمون السنّة على مستوى رؤساء الحكومات والنواب «السابقون» من كتلة «المستقبل» والنواب الحاليون، والقوة الأكثر تمثيلاً الرئيس سعد الحريري وتياره عن خوض الانتخابات، أقله على مستوى الترشيح، ولاحقاً على مستوى الاقتراع ربما، في سابقة لم تحدث في أي وقت من الأوقات في تاريخ لبنان، وبالتأكيد سيكون هناك تأثيرات مباشرة على المشهد وتوازناته..
أمَّا الفريق الشيعي، حيث تبلغ الاستعدادات أوجها اليوم، مع وقائع المؤتمر الصحفي للرئيس نبيه برّي، حول الانتخابات والمرشحين الغائبين والحاضرين، فهو أكمل عدّة «المنازلة» لضمان الحصول على كتلة النواب الشيعة الـ27 مناصفة بين حركة «أمل» وحزب الله، على أن يكون الـ27 من حصة الحليف السوري حزب البعث.. سواء عبر أمينه العام الجديد الشاب علي حجازي، أو ما ترتئي القيادة في دمشق أن يمثلها في البرلمان الجديد..
عند الموحدين الدروز، يبدو المشهد أكثر اضطراباً، مع ما يرشح من موقف من النائب وليد جنبلاط، الذي يخشى من تطويق له، بعدما صارح الشيعة من يعنيهم الأمر بأنهم ليسوا بوارد تكرار تجربة انتخابات الـ2018، ومراعاة مصالح جنبلاط، ولو على حساب حلفائهم..
على جبهة المسيحيين، قلق من نوع آخر، مما هو مصير المسيحية الشرقية في عالم مضطرب، الانتخابات هي الطريق إلى البقاء ضمن النظام، وضمن نظام التبدلات والصراعات على «الجيوبوليتكا اللبنانية» وعلى أرض رخوة، مهددة بالانخفاض إلى مستوى ما دون البحر، بعد تلوث الانهار، واضطراب السدود والينابيع وسوى ذلك..
يحافظ التيار الوطني الحر على وشائج العلاقات مع حزب الله، كي يحافظ على كتلة تُظهره أنه ما يزال الأقوى مسيحياً.. وينبري حزب «القوات اللبنانية» إلى الالتصاق بالحزب التقدمي الاشتراكي، كممثل الأقوى للدروز، شريك مصالحة الجبل، أو تحالف «نظام المتصرفية»، وسط عزلة سنيَّة، قاتلة، لم تنفع معها عمليات الانفتاح من قِبل هذه الشخصية السنيَّة أو تلك..
صورة المشهد السياسي القلق، تعبّر عن نفسها، في التحالفات، ونظام اللوائح، والمهادنات، والخيارات التكتيكية والبعيدة.. كل ذلك، على وقع عملية تبصير يشتهر بها اللبنانيون.. الذين هم ضحايا هوبرة تاريخية لا معنى لها على أرض الواقع!